في دخول القوّات الشعبيّة إلى مقاطعة عفرين
بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد
كثرت في الآونة الأخيرة الثرثرات السياسيّة والتخرّصات حول تبعات دخول قوّات شعبيّة تابعة للدولة السّوريّة إلى مقاطعة عفرين، في ظلّ استمرار العدوان التركيّ ومرتزقته، وبشكل وحشيّ.
لا اتّفاق رسميّ بين الطرفين
الدعوة إلى دخول قوّات الدولة السّوريّة إلى عفرين ليست بالجديدة، حيث طالبت الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة في مقاطعة عفرين قبل فترة، وبكلّ صراحة، الدولة السّوريّة للاضطّلاع بمهامها السياديّة في عفرين، على اعتبار أنّها جزءاً من الأراضي السّوريّة، وأن تُقرن أقوالها بالأفعال، إن كانت جادّة في ذلك.
اللغط الذي أثاره بعض السذّج وممّن يسعون الصيد في المياه العكرة، هي أنّه تمّ تسليم كلّ شيء للنظام، ولم يعد هناك بعد الآن أيّ دور عسكريّ أو مدنيّ أو إداريّ لمؤسّسات الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة في عفرين. لكن الحقائق والوقائع على الأرض تدحض كلّ هذه الافتراضات والتصوّرات.
بداية، لم يتمّ توقيع أيّ اتّفاق رسميّ بين الطرفين؛ النظام ووحدات حماية الشعب أو الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة، بل لم يتعدّ كونه “تفاهماً” وفي حدوده الدنيا. حيث أنّ أيّ اتّفاق وفي الظروف التي تمرّ بها، إن حصل، يستدعي ضمانات من أطراف دوليّة، أو على الأقلّ حضوراً للأطراف الفاعلة في الأزمة السّوريّة، وعلى رأسها روسيّا كدولة داعمة للنظام. وكذلك فإنّ الاتّفاق يقتضي أن يكون شاملاً ويمرّ عبر عدّة مسارات، أوّلها الاعتراف بالوضع القائم في مقاطعة عفرين، إن كانت الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة أو الفيدراليّة، وثانيها، تقاسم بعض المهام المشتركة المتعارف عليها في كافة الأنظمة الفيدراليّة أو الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة. وهذا الاتّفاق لا يمكن أن يكون منفرداً، بل يتطلّب مشاركة أطراف أخرى، ليكون أساساً في إرساء حلّ ديمقراطيّ لسوريّا عموماً.
ضرورة تشكل جبهة واسعة لمواجهة العدوان التركيّ
الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة في المقاطعات الثلاث، لم تغلق باب الحوار مع أيّ طرف كان حتّى مع النظام، إنّها تقبل بالحلول الديمقراطيّة، وتجد في التسوية السياسيّة حلّاً للأزمة السّوريّة، هذا من جانب، من جانب آخر، في ظلّ الأوضاع الراهنة من عدوان شامل على كافة الإنجازات التي حقّقها الشعب الكرديّ ومعه كافة المكوّنات المتعايشة في الشّمال السّوريّ. وفي غمرة الجنون التركيّ للبحث عن حلفاء جدد له في عدوانه هذا، تحرّك يميناً وشمالاً لسدّ كافّة المنافذ على الإدارة الذاتيّة ووحدات حماية الشعب والمرأة، حتّى تصالح مع ألدّ أعدائه السابقين، في سعي لخنقنا في عفرين، ومن ثمّ الإجهاز علينا. مقابل هذا السعي التركيّ المحموم، يتوجّب على القيادة السياسيّة والعسكريّة التوجّه لفتح أبواب أخرى، وحتّى التصالح مع أعداء الأمس، وتشكيل جبهة واسعة وعريضة من القوى الوطنيّة الديمقراطيّة ضدّ تركيّا ولجمها عن تنفيذ مخطّطها الرامي إلى احتلال ليس عفرين فقط، وإنّما كامل التراب السّوريّ، لتعيد خلط الأوراق والأزمة السّوريّة إلى المربّع العنفيّ الأوّل. فلماذا يحقّ لأعدائنا إنشاء تحالفات واصطفافات مع محيطنا، ولا يحقّ لنا، أعتقد أنّه حتّى إذا تحالفنا مع الشيطان في هذه المرحلة، إن كان مفيداً لإنقاذ عفرين، فإنّه سيكون صحيحاً.
“التفاهم” وضع النظام في مأزق حرج
إنّ البحث في حيثيّات دخول القوّات الشعبيّة التابعة للدولة السّوريّة إلى جغرافيّة مقاطعة عفرين، يؤكّد على الهُويّة الوطنيّة السّوريّة لوحدات حماية الشعب والمرأة، التي طالما شكّك بها بعض المتشكّكين، وهي تسحب الذريعة التي يتحجّج بها النظام وغيره، من الصاق تهمة “الانفصال” بالإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة وفيدراليّة شمال سوريّا. على العكس تماماً، وضعت النظام في مأزق حرج بحيث لا يمكنه التهرّب من المهام الملقاة على عاتقه، إن كان يؤمن بالوحدة والسيادة الوطنيّة السّوريّة. كما تلزمه – أي النظام – في التحرّك على أكثر من صعيد، وخاصّة الدوليّ، لفضح الاحتلال التركيّ للأراضي السّوريّة وليس عفرين فقط.
التهديد التركيّ بقصف قوّات النظام؛ جعجعة إعلاميّة
التهديد التركيّ في مواجهة تلك القوّات في حال دخولها مقاطعة عفرين، لا تغدو كونها جعجعة إعلاميّة، حيث أنّ هذه القوّات تابعة للدولة السّوريّة وترفع علمها، وانتشرت في أكثر من موقع على الجبهات الساخنة. فإن نفّذت تركيّا تهديدها وقصفت تلك القوات، فهذا يعني فتح مواجهة مع النظام وبالتالي مع إيران وروسيّا، وهو ما لن تجرؤ تركيّا على المجازفة به وارتكاب حماقة كهذه، فحائط الصدّ الصاروخيّ الرّوسيّ سيكون لها بالمرصاد، ومهما بالغنا في الموافقة الرّوسيّة على العدوان التركيّ لمقاطعة عفرين، إلا أنّه لا يمكن لروسيّا أن تسمح بتوسيع دائرة المعارك وانتقالها إلى مواجهة مع النظام وإيران، بل ستسعى، وتحت ضغط وقائع الميدان، إلى كبح جماح هَيَجان الثور التركيّ، وحتّى فرض وقف لإطلاق النار عليه.
“الإدارة الذاتيّة ستدير المقاطعة”
الناطق الرسميّ باسم وحدات حماية الشعب في مقاطعة عفرين بروسك حسكة أعلن، وأمام الملأ، أنّ القوّات الشعبيّة ستنتشر على الجبهات القتاليّة، ولن تدخل مطلقاً المدن وخاصّة عفرين، بل شدّد على أنّ الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة هي من ستواصل إدارة المقاطعة وعلى كافة المستويّات، الأمر الذي لاقى ارتياحاً لدى كافة الأهالي، وقطع الطريق على كافة المتربّصين بالإدارة الذاتيّة بأنّها سلّمت كلّ الأمور إلى النظام.
انهيار التنسيق التركيّ – الإيرانيّ
قلنا سابقاً إنّ مقاومة عفرين تعيد تشكيل تحالفات وتوازنات جديدة في المنطقة، وهو ما بدأ يتبلور شيئاً فشيئاً من خلال ضعف التنسيق التركيّ – الإيرانيّ بعد العدوان على عفرين، وهو في طريقه إلى الفكاك والانهيار، نظراً للخلاف الإيديولوجيّ بينهما. إيران تجد في التمدّد التركيّ في المنطقة خطراً يهدّد مصالحها، فرغم اتّفاقهما على محاربة أيّ توجّه كرديّ، إلا أنّ المشروع التركيّ المنفلت من عقاله، يتجاوز الكرد وحقوقهم، فأردوغان يهدف إلى بسط نفوذه الإقليميّ في المنطقة، وهو ما يتعارض مع التوجّهات الإقليميّة الإيرانيّة الساعية إلى تشكيل خطّ “شيعيّ” في مواجهة تركيّا “السنّيّة”. إيران تدرك جيّداً المخاطر التي يحملها العدوان التركيّ على عفرين، ولا يمكن لها أن تبقى صامتة، بل ستسعى إلى الضغط على روسيّا لوقف العدوان التركيّ، فإيران أقرب إلى روسيّا من تركيّا، وخاصّة في سوريّا.
أمريكا تكافئ المعتدي بصمتها
أمريكا من جانبها ملتزمة الصمت الكامل إزاء الجرائم التي ترتكبها تركيّا ومرتزقتها في عفرين، وهذا الصمت يعني الوقوف مع المجرم في أفضل الأحوال، أمريكا المتخوّفة من فرط عقد حلف الناتو، تهاب تركيّا من الارتماء كاملاً في الحضن الرّوسيّ، فخروج تركيّا – ثانية دولة في الحلف من حيث عدد قوّاتها – يهدّد كامل دول الحلف بالخروج منه، حتّى أوروبا. ومازالت أمريكا بحاجة إلى تركيّا للحفاظ عليها واستخدامها في مهام ووظائف أخرى، فالمشاركة التركيّة في كافة حروب الحلف، لا يمكن لأمريكا غضّ النظر عنها وتركها وراءها، وهي لا تفاضل بينها وبين تحالفها مع قوّات سوريّا الديمقراطيّة. كما أنّ زيارة وزير الخارجيّة الأمريكيّ “ريكس تيلرسون” إلى أنقرة، منحت تركيّا مكافأة للاستمرار في عدوانها على عفرين، كضمانة لبقاء الأخيرة ضمن صفوف الناتو، حتّى وصل بها إلى قطع الوعود معها في تقاسم السيطرة على منبج، بعد انسحاب قوّات مجلس منبج العسكريّ منها والتي هي جزء من قوّات سوريّا الديمقراطيّة، حسب الادّعاءات التركيّة والأمريكيّة.
“الناتو يشارك في العدوان”
تصريح الرئيسة المشتركة لمجلس سوريّا الديمقراطيّة “إلهام أحمد” بأنّ “حلف الناتو يشارك تركيّا في العدوان على عفرين”، أصاب كبد الحقيقة، ولو أنّ التصريح جاء متأخّراً نوعاً ما. اللعبة الأمريكيّة القذرة في التنصّل من مهامها في عفرين وفي غربيّ نهر الفرات عموماً، يحمل في طيّاته مخاوف عديدة، حول النكوث بوعودها والتزاماتها حيال قوّات سوريّا الديمقراطيّة، فلا يمكن الجمع بين ما يجري في شرق الفرات من زيادة الدعم المقدّم إلى قوّات سوريّا الديمقراطيّة، وتوجّه قوّات أمريكيّة للتمركز في حقل كونيكو، مقابل إطلاق العنان لتركيّا لتدمير عفرين أرضاً وشعباً. أمريكا تملك من أوراق القوّة، ما يمكّنها من إيقاف العدوان وخلال يوم واحد، لكن حلقة المؤامرة تشارك أمريكا أحد أطرافها، وتتعدّى في أحد أبعادها الإستراتيجيّة الخلاف الرّوسيّ – الأمريكيّ في الاستحواز على المناطق النفطيّة في سوريّا، لتبرز ثنائيّة الحليف “المفضّل والأفضل” بين قوّات سوريّا الديمقراطيّة وتركيّا العضو الدائم في حلف الناتو.
مقاومة العصر وارتداداتها في الداخل التركيّ
ادّعاء أردوغان تغيير إستراتيجيّته للعدوان على عفرين، يشير إلى تخبّط وفشل في العدوان، بعد مرور أكثر من 36 يوماً على هجماته البربريّة، خروجه على الإعلام يوميّاً، وكأنّه مراسل حربيّ، يؤكّد القلق الذي يساوره من نهايات تورّطه في العدوان على عفرين. حشد الرأي العام الداخليّ والشعبيّ في المعركة، من خلال تسخير خطباء المساجد والأحزاب السياسيّة ووسائل الإعلام، بدأ يضعف، رغم القبضة الأمنيّة التي فرضها على كافة الفئات المجتمعيّة واستخدامه سياسة كمّ الأفواه ضدّ كلّ المعترضين على العدوان، وهذه الهوّة ستّتسع مع استمرار المقاومة في كلّ الجبهات، والتبجّحات التي يسوقها في فرض الحصار على عفرين المدينة، إنّما للتشويش على الرأي العام وإيهامه بتحقيق انتصارات وهميّة.
لدى المقاومة أوراق لم تستخدمها بعد
مازال العدوان التركيّ على مقاطعة عفرين، مفتوحاً على كافة الاحتمالات، ولكن المؤكّد أيضاً في حال إيغال تركيّا في وحشيّتها، أن تنتقل المقاومة أيضاً إلى سويّات أخرى، لتقلب حسابات تركيّا وكافة الأطراف الداعمة لها رأساً على عقب، وهي سيناريوهات مطروحة وتناقشها كافة الدول والأطراف الضالعة في العدوان، فلدى المقاومة التي تخوضها وحدات حماية الشعب والمرأة وقوّات سوريّا الديمقراطيّة من أوراق القوّة التي لم تستخدمها بعد، بل أرسلت، وعدّة مرّات رسالات تحذير، وإلى كافة الأطراف، بأنّ لديها القدرة للاستمرار في المقاومة مادام العدوان مستمرّاً.