العدالة المزيفة
حسين العثمان
انتشرت في بداية الشهر الماضي قضية اختفاء الصحفي جمال خاشقجي كما انتشار النار في الهشيم، وتناثرت أصداء هذه القضية لتشغل أقاصي الأرض وتصبح القضية رقم واحد في وسائل الإعلام الإقليمية والدولية.
وبعد كشف مقتل هذا الرجل ازدادت حساسية العالم المتحضر والدول المدافعة عن حقوق الإنسان والديمقراطية الرأسمالية لتجد في هذه الحادثة مادة دسمة لنشر قيم العدالة والإنسانية.
ومن باب المصادفة أن تكون إحدى هذه الدول المستنكرة هي الدولة التي وقعت الجريمة على أراضيها، وجيشت كل إعلامها وسياسييها للاهتمام والتركيز على الموضوع.
وروجت للعدالة وإظهار وجه الحق في هذه القضية، لكن يبدو أن أردوغان لن يسمع بمقولة فاقد الشيء لا يعطيه.
أين العدالة التي يتغنى بها اليوم أمام عدالة الأمس المسلوبة حين رضخ للمطالب الأمريكية وقام مرغما بالضغط على قضائه لإطلاق سراح القس برانسون.
أين قدسية العدالة وقيم الإنسانية التي ترفع كشعارات براقة وطنانة يتغنى بها أمام ما فعلته تركيا في سوريا منذ 7 سنوات والتي مازالت حاضرة وشاهدة إلى يومنا هذا، وكان آخر فصولها الاحتلال التركي لعفرين وتهجير سكانها لإحداث تغيير ديمغرافي ممنهج يؤسس لمرحلة توطين لتركيبة سكانية جديدة، وإحداث حالة من الحقد والكراهية بين مكونات الشعب السوري.
أما فيما يخص اللاجئين السوريين في تركيا وتشريع الأبواب لدخولهم؛ كان بمثابة أسهم لزيادة بورصة الأرقام لدى الحسابات المصرفية في تركيا.
أي عدالة تلك التي تتطلب كل هذا الاستنفار والتصعيد لمقتل صحفي واحد، في حين أن السوريين ذاقوا الموت بكل ألوانه وأشكاله وتجرعوا مرارة النزوح والتهجير والتنكيل والحصار.
ناهيك عن مقتل واختفاء المئات من الصحفيين والإعلامين في أتون الصراع السوري والحرب الدائرة على كامل الجغرافية السورية، ولم يتحرك ضمير الإنسانية العالمية إلا في نطاق ضيق لم يتجاوز عبارات التنديد والشجب.
أين كان ضمير المجتمع الدولي حين كانت عصابات البغدادي تقوم بالتنكيل والتقطيع والتمثيل بالجثث أمام مساحات واسعة من المجال في الإعلام الفضائي وبكل وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الإعلامي المفتوح لتصوير فظاعاتهم وممارساتهم، ولما شرعت الحدود التركية لهم للعبور تجاه سوريا الجريحة النازفة.
فالقضية ليست بالبعد الإنساني والعدالة، بل أضحت براغماتية بحتة للوصول إلى أهداف تخص البنية الهرمية في العلاقات الدولية وفق حسابات البنوك والمصارف والقيمة المضافة من الذهب والنفط لخزائن بعض الدول.
إن الخبث السياسي والاقتصادي الذي تتبعه الإدارة التركية في تعاملها مع قضية الخاشقجي؛ يبرهن ويثبت للمرة الألف ازدواجيتها في التعامل مع القضايا الإقليمية الحساسة، وتحاول جاهدة أن توصل رسالة وصورة للعالم أنها دولة تحترم الإنسانية والعدالة.
برغم الاتجاهات التي سلكتها تركيا في صيرورة الأزمة السورية والدور القذر الذي لعبته في مسار معاناة السوريين ابتداء من جلب الغزاة من شذاذ الآفاق وتكديسهم في سوريا، وسرقتها لركيزة الاقتصاد السوري من مدينة حلب العاصمة الاقتصادية في سوريا، ونهب وسرقة الآثار في مدينة عفرين، وتجارة النفط المفضوحة مع داعش، فإنها مع ذلك تدّعي العدالة والإنسانية.
فما هو معيار الإنسانية والعدالة لدى الإدارة التركية، وما مقياس العدالة عند حزب العدالة والتنمية.
فتركيا في الوقت الراهن من أكبر الدول التي تشهد اعتقالات في صفوف مواطنيها، فكل سياسي أو مفكر لا يتفق مع السياسة الأردوغانية عرضة للاعتقال، وأي إعلامي مدان تحت الطلب في أي لحظة يناكف سياسة الوالي الأردوغانية.
وتحت كل هذه القيود والقبضة الحديدة والتحول نحو نظام رئاسي يجمع بيده كل السلطات والتفرد بالقرارات والدور السلبي تجاه الأزمة السورية، يخرج ليتغنى بالإنسانية والعدالة، فالعاهرة أيضا تتغنى بالشرف.
أين كان أردوغان حين كانت داعش تقطع الرؤوس وتضعها كقناديل على الحِراب أمام أعين أهلنا وشعبنا.
أين كان يغفو حين كانوا يعبرون الأراضي التركية ويتبضعون في أسواق اسطنبول قبل اجتيازهم حدود دولته التي أغلقت الآن في وجه المدنيين، هل كان ضمير أردوغان ميتاً حين كانت النساء تصلب في الشوارع وتهان وتذل وتضرب على أيدي حراس الدين.
كل الكلام عن العدالة والإنسانية ماهي إلا سمفونية مشروخة اعتدنا سماعها على موائد الدم السوري، يشارك في كتابة كلماتها المجتمع الدولي ويلحنها تجار الدم والقيم والأزمات الدولية.