إرهاصات الحلّ السّوريّ المرتقب ضمن التفاهمات الأمريكيّة – الروسيّة
بقلم: الكاتب السياسيّ والإعلاميّ جميل رشيد
شهدت الساحة السّوريّة في الآونة الأخيرة تطوّرات عسكريّة وسياسيّة، وضعتها على أعتاب مرحلة جديدة، توحي وكأنّ الحربَ الأهليّة التي تعصفُ بها ستضع أوزارها وفق العديد من المؤشّرات، حيث بدأت تلوح في الأفق السياسيّ والعسكريّ ملامح رسم خرائط جديدة لنفوذ القوى الفاعلة، وخاصّة الدوليّة منها.
ما أسباب إلغاء أمريكا برنامج دعم ما تسمّى بالمعارضة السّوريّة ..؟؟
إنّ سياسة العصا والجزرة التي مارستها كلّ من أمريكا وروسيّا مع قوى المعارضة السّوريّة قد أتت أُكُلها في أكثر من مكان وزمان، ولعلّ الخطة التي وضعتها روسيّا في دفع تركيّا للضغط على المجاميع الإرهابيّة للانسحاب من حلب وتسليمها لقوّات النظام وحلفائه، أسطع مثال على انحسار دور تلك المجاميع التي لم تكن سوى “تنظيمات وظيفيّة” أدّت أدوارها المنوطة بها في ضرب البنية التحتيّة للبلاد، وقوّت عضُدَ النظام أكثر ما أضعفته، وبات التخلّص منها واستئصالها مهمّة لا تقبل التأجيل والتسويف.
ولا يخفى على أحد أنّ روسيّا مارست ذات السياسة مع تركيّا وأردوغان، واستطاعت جرّها إلى معسكرها والحدّ من نفوذها في السّاحة السّوريّة، بل على العكس، تمكّنت من إيجاد تقاطعاتٍ هامّة بينها وبين النظام، كان أهمّها زيارة نائب رئيس الاستخبارات التركيّة دمشق، هذا عداك عن الزيارات السرّيّة التي لم يُفصَح عنها.
فيما جاء قرار الرئيس الأمريكيّ في إنهاء برنامج دعم المعارضة السّوريّة عبر غرفتي “موم” في تركيّا و”موك” في الأردن، كالصاعقة على رؤوس من كانوا يتوهّمون خداع أمريكا، حيث أدركت أمريكا أنّ كافة أنواع المساعدات وخاصّة العسكريّة منها كانت تذهب إلى القوى المتشدّدة والإرهابيّة مثل جبهة النصرة وتنظيم داعش، وتجربتها مع حركة حزم بقيادة جمال معروف وكذلك لواء المعتصم خير مثال على ذلك.
وأدركت أمريكا مدى التورّط التركيّ في دعم الجماعات الإرهابيّة، مثلما حصل مع الفرقة 51 وقائدها نديم الحسن عام 2015، حيث اكتشفت أنّ المنضمّين من تلك الفرقة إلى برنامج تدريبها لقوى المعارضة، ما هم إلا عناصر من جبهة النصرة تمّ الترتيب لانضمامهم بمعرفة وتدبير من تركيّا، وفور عودتهم إلى السّاحة السّوريّة أعلنت النصرة اعتقالهم، إلا أنّه سرعان ما اُكتُشِفَ أنّهم عادوا إلى قواعدهم في قرية الشوارغة التابعة لمقاطعة عفرين، وعلى إثرها اندلعت اشتباكات عنيفة بينها وبين لواء جبهة الأكراد وجيش الثوّار الذي كان قد تشكّل حديثاً. بالطبع هذا فيض من غيض حجم تغلغل القوى الإرهابيّة بين صفوف الفصائل العسكريّة وسيطرتها على المشهد العسكريّ السّوريّ الموسوم بالإسلام، وتجييرها كافة الفصائل التي تقع خارج حلقتها لصالح أجنداتها، وذلك بدعم واضح من بعض الدول الإقليميّة وعلى رأسها تركيّا.
أضف إلى ذلك، أن تلك القوى لم تحمل يوماً ما أجندات وطنيّة، بل جلّ اهتمامها تركّز على بناء إمارات إسلامويّة متطرّفة على غرار تورا بورا، ولجم حركة المجتمع في التحرّر والسير نحو الديمقراطيّة، واعتبرت أيّ حديث عن الديمقراطيّة “كفراً” يعاقب صاحبها.
حتّى المعارضة التي تدّعي أنّها سياسيّة وحاملة للهمّ الوطنيّ، تحوّلت إلى مظلّة للقوى الإرهابيّة تدافع عنها في المحافل الدوليّة وتحاول شرعنتها، مثلما حصل عندما سيطرت جبهة النصرة وحلفاؤها على محافظة إدلب، حينها اعتبر الإئتلاف السّوريّ أنّ النصرة “قوّة ثوريّة” ويجب رفع اسمها من قائمة الإرهاب.
هذه الحقائق عاشها السّوريّون وذاقوا مرارتها، وجعلتهم ينكفئون عن تلك الحركات الإرهابيّة، ويبحثون عن سبل أخرى للخروج من الأزمة التي تعصف بوطنهم.
الكرد والحضور القويّ في المعادلة الدوليّة لحلّ الأزمة السّوريّة
في المقلب الآخر، حافظ الكرد على توازنهم السياسيّ والعسكريّ في السير على إستراتيجيّة “الخطّ الثالث” ما بين المعارضة والنظام، وعلى أساسها حقّقوا إنجازات كبيرة، لفتت أنظار القوى السياسيّة الحقيقيّة التي لها مصلحة في إنقاذ سوريّا من الجحيم الذي تمرّ به، وكذلك القوى الدوليّة الفاعلة في الأزمة السّوريّة. فاستقطبت العديد من القوى حولها وأسّست كيانات سياسيّة وعسكريّة تواءمت مع المرحلة التي تمرّ بها سوريّا، وتكون ردّاً عليها. حيث تشكّلت قوّات سوريّا الديمقراطيّة التي استطاعت بفضل خطّها العسكريّ الثابت في دحر الإرهاب وحماية مناطقها من كلّ ما من شأنه أن يزعزع أمنها واستقرارها، فحظيت باحترام وتأييد تلك القوى التي كانت تراقب عن كثب سلوكها وآليّة عملها على الأرض، فوجدت فيها الشريك الأصدق والأكفأ في محاربة الإرهاب الذي انتشر على كامل الجغرافية السّوريّة تقريباً وغدا تهديداً حقيقيّاً لأيّ تطوّر سياسيّ وديمقراطيّ لاحق في سوريّا والمنطقة وحتّى في دولها التي لم تسلم هي الأخرى من شروره.
فاختيار التحالف معها لم يكن عبثيّاً، بل جاء بعد دراسة معمّقة وتقارير عديدة من قبل مراكز البحث الإستراتيجيّة لديها، بأنّها البديل المناسب والمعتدل الذي ما باتت تبحث عنه في السّاحة السّوريّة.
بالتوازي مع التصدّر في المشهد العسكريّ، كان لتأسيس مجلس سوريّا الديمقراطيّة الخطوة الثانية التي لا تقلّ أهميّة عن تأسيس قوّات سوريّا الديمقراطيّة من حيث الدور المنوط به في تحقيق انفتاح سياسيّ ودبلوماسيّ على السّاحة السياسيّة الدوليّة، وأنّها المظلّة السياسيّة لقوّات سوريّا الديمقراطيّة، حيث تمكّنت من كسر الحظر والحصار الذي فرضته بعض القوى الإقليميّة والداخليّة المتحالفة معها على الكرد وحلفائهم.
أهميّة تحرير الرّقّة في الحلّ السّوريّ
كان من شأن هذه التطوّرات أن تُحدث تغييراً في الساحة السّوريّة، وتدير بوصلتها نحو السير في الطريق الصحيحة لإنهاء الأزمة، فغدت ثلاث قوى أساسيّة فاعلة في الداخل السّوريّ: قوّات سوريّا الديمقراطيّة، قوّات النظام وحلفاءه والقوى الإرهابيّة التي دخلت في مرحلة الانقراض، وخاصّة بعد تحرير مناطق عديدة وإستراتيجيّة في الشّمال السّوريّ مثل مدن(منبج، الطبقة، تل أبيض، صرّين …) وتحرير ثلاثة سدود إستراتيجيّة أيضاً، والآن معركة تحرير الرّقّة التي تسير على قدم وساق وهي في فصولها الأخيرة، سيكون لها الكلمة الفصل في تحديد مسار الأزمة ورسم ملامح المستقبل السّوريّ، خصوصاً وأنّ أولى ملامح هذا الحلّ ظهرت في المشروع الفيدراليّ في شمال سوريّا، حيث تمّ الإعلان وبشكل رسميٍّ عن التقسيمات الإداريّة في فيدراليّة شمال سوريّا، بالتوازي مع الإعلان عن خطّة التهدئة التي فرضتها كلّ من أمريكا وروسيّا في المنطقة الجنوبيّة (درعا والسويداء) وبمعزل عن تركيّا وإيران وحتّى النظام السّوريّ الذي وقف يتأمّل المشهد من بعيد، وضغطت عليه روسيّا لسحب بعض قطعاته العسكريّة من المناطق المشمولة بالتهدئة.
يُراد الآن نسخ تجربة التهدئة في الجنوب على المناطق الوسطى في حماة وحمص وكذلك في إدلب، وفرض إرادة دوليّة خارج نفوذ الدول الإقليميّة، ووضع الأزمة السّوريّة على سكّة الحلّ، بعيداً عن تأثيرات تلك القوى.
والمؤكّد من خلال استقراء وفهم موازين القوى على الأرض، أنّ الكرد ومعهم كافة مكوّنات روج آفا وشمال سوريّا، هم القوّة الأوفر حظّاً في المشاركة في رسم مستقبل سوريّا مع اللاعبين الكبار؛ أمريكا وروسيّا. حيث بدأت تصدر الأصوات – وبقوّة – من كلا القوتين بضرورة إشراك الكرد في مفاوضات الحلّ النهائي للأزمة السّوريّة، وأنّ الحلّ المرتقب لسوريّا يمرّ عبر النموذج الفيدرالّي على غرار ما تمّ طرحه في شمال سوريّا من قبل الكرد والقوى الفاعلة فيه. حيث استحال على أيّ قوّة كسب الحرب وتنفيذ مشروعها الخاص، وباتت التشاركيّة السمة الأساسيّة والملازمة لِبَلوَرةِ الحلّ.
من هنا، أصبح من المفترض أن تكثّف كافة القوى المعنيّة بحلّ الأزمة السّوريّة – سياسيّاً – من مساعيها في طرح رؤيتها في الحلّ، ويأتي في مقدّمة أيّ مشروع؛ دحر الإرهاب بكافة مسمّياته وألوانه.
تبدّد آمال تركيّا بالتمدّد في شمال سوريّا
فمعركة الرّقّة بات النصر فيها قاب قوسين أو أدنى، فيما إدلب التي ترزح تحت نير إرهاب جبهة النصرة والحزب الإسلاميّ التركستانيّ وغيرها من التنظيمات الإرهابيّة التي تتشارك معهما في العقيدة التكفيريّة والإيديولوجيا، هي في مرمى كافة القوى وخاصّة روسيّا وأمريكا. والمناورة التركيّة الأخيرة ومحاولتها احتلال إدلب على غرار جرابلس، فرمَلَتها كلّ من أمريكا وروسيّا، عبر ضرب الجناح العسكريّ لحركة الإخوان المسلمين فيها “حركة أحرار الشام” الدائرة في الفلك التركيّ، واقتُلِعَتْ الحركة من إدلب ليُزجَّ بها في مناطق الشهباء، كنوع من إرضاء لتركيّا لتستخدمهم كرأس حربة في الهجوم المُزمَع على مقاطعة عفرين ومناطق الشهباء، وسقطت في أوّل امتحانٍ لها في معركة “تل جيجان” ومُنِيَت بخسائر كبيرة في الأرواح والعتاد وعادت إلى أسيادها مدحورة.
السيناريوهات التي أعدّتها وتعدّها كلّ من أمريكا وروسيّا في سوريّا، لا يمكنها بأسوأ الأحوال تجاوز الحالة الوطنيّة المترسّخة في روج آفا والشمال السّوريّ، بل تعتبرانها الأسّ والمنطلق في أيّ حلّ مرتقب للأزمة السّوريّة، حيث كبحت جماح تركيّا بالتمدّد في الشمال السّوريّ ومحاولتها عرقلة عمليّة تحرير الرّقّة، من خلال إعدادها لهجوم على مقاطعة عفرين ومناطق الشهباء؛ في مسعى لإعادة خلط الأوراق وتنفيذ أجنداتها الخاصّة والتي ديدنها القضاء على “التجربة الكرديّة الديمقراطيّة”، تحت حجج وذرائع مختلفة، من قبيل “حماية أمنها القوميّ، عدم قيام كيانٍ كرديّ على خاصرتها الجنوبيّة، قطع الدعم عن حزب العمال الكردستانيّ …الخ”.
تقطيع أواصر “الهلال الشيعيّ” الإيرانيّ
بالمقابل تقليص دور ونفوذ إيران في سوريّا، تجده القوى الكبرى أنّه إحدى مستلزمات الحلّ، فرغم مشاركة كلّ من إيران وتركيّا في اجتماعات أستانه، إلا أنّهما استُبعِدَتا من أيّ ترتيبات أمنيّة وعسكريّة، والدور الإيرانيّ في سوريّا لا يقلّ سوءاً عن التركيّ، حيث هي الأخرى أجّجت الخلافات الطائفيّة والمذهبيّة، وحاولت تمرير أجنداتها القومويّة تحت شعار “نشر المذهب الشيعيّ” وتشكيل هلال شيعيّ يمتدّ من إيران مروراً بالعراق وسوريّا وصولاً إلى لبنان.
غير أنّ السعيَ الإيرانيّ اصطدم برفضٍ قاطع من قبل الدول الفاعلة في الأزمة السّوريّة وعلى رأسها أمريكا، فالتواجد الأمريكيّ – البريطانيّ في المثلّث العراقيّ – السّوريّ – الأردنيّ بمنطقة التنف، هدفها الأوّل تقطيع هذا الهلال، خاصّة إذا ما فهمنا أنّ الرئيس الأمريكيّ الجديد ترامب وفريق عمله في الإدارة الأمريكيّة، وغداة تسلّمه مقاليد السلطة في بلاده، وضع أمامه هدفين أساسيين في سوريّا، الأوّل دحر الإرهاب، والثاني إنهاء الوجود الإيرانيّ. وفي هذا الصدد توافقت معها روسيّا نوعاً وتجلّى ذلك أكثر في لقاء بوتين وترامب على هامش قمّة ميونيخ. وروسيّا أيضاً ممتعضة من الدور الإيرانيّ، حيث برزت خلافات عديدة بينهما بعد استعادة حلب، كما أنّ إيران غير قادرة بمفردها على حماية النظام، وهذا ما تأكّد عندما وصلت قوى المعارضة على مشارف العاصمة دمشق وباتت تهدّدها بشكل جديّ، وعاصفة السوخوي الروسيّة، هي من أنقذته من الانهيار، وليس إيران.
تفاهم أمريكيّ – روسيّ على سوريّا تحت الطاولة
التفاهم الروسيّ – الأمريكيّ حول سوريّا، وضعت خطوطه العريضة في 15 أيلول من العام المنصرم، ضمن اتّفاق ما سمّي حينها بـ”اتّفاق كيري – لافروف”، ورغم وجود بعض الخلافات الثانويّة بين الطرفين، إلا أنّهما متّفقتان على الترتيبات النهائية في سوريّا، ومن بينها إنهاء دور القوى الإرهابيّة، وكذلك تقليص نفوذ كلّ من تركيّا وإيران، والإبقاء على النظام حتّى الفترة الانتقاليّة. وضمن هذا الإطار برزت خلافات بين كلّ من تركيّا وأمريكا، تكاد قد وصلت إلى حدّ الطلاق البائن بينهما، على خلفيّة اختيار أمريكا قوّات سوريّا الديمقراطيّة قوّة وحيدة مشاركة في تحرير الرّقّة، وأكّد المسؤولون الأمريكيّون في أكثر من مناسبة أنّ هذا التحالف مع (قسد) سيستمرّ إلى ما بعد القضاء على داعش، وهذا بطبيعة الحال لم يرق لتركيّا.
سياسة الابتزاز التركيّة
فرغم أهميّة تركيّا بالنسبة للمصالح الأمريكيّة في المنطقة، على أنّها عضو في حلف الناتو، إلا أنّه شابت العلاقات بينهما نوع من الفتور بسبب استبعاد تركيّا من معركة تحرير الرّقّة ودعمها الفاضح للقوى الإرهابيّة طيلة عمر الأزمة السّوريّة. وتمثّلت ردّة الفعل التركيّة عبر التهديد بالتوجّه شرقاً والتلويح بانضمامها إلى معاهدة “شنغهاي” التي تضمّ كلّاً من روسيّا والصين، والخروج من العباءة الغربيّة، كنوع من سياسة الابتزاز لكلّ من أمريكا والاتّحاد الأوروبيّ، الذي علّق هو الآخر مفاوضات انضمامها إليه، وربطها بجملة من التغييرات التي يستوجب على تركيّا إجراءها، ومنها حلّ القضيّة الكردية، وقبرص، وتحسين سجلّها في مجال حقوق الإنسان وحرّيّة الإعلام. غير أنّ تركيّا في ظلّ حكم حزب العدالة والتنمية غير قادر على الالتزام بهذه المعايير، على العكس اتّجهت نحو دكتاتوريّة فظّة استفردت بالسلطة، وقضت على الهامش من الحرّيّات والديمقراطيّة الذي كان موجوداً، خاصّة بعد مسرحيّة الانقلاب في 15 تموز العام المنصرم.
ضمن هذه اللوحة، فكلّ الدول الإقليميّة مُثقلة بالأزمات وتعصف بها التناقضات، فرغم محاولاتها تصدير أزماتها إلى الداخل السّوريّ، وجعلها متنفّساً لها، إلا أنّها تعمّقت أكثر فأكثر وجعلتها تدور في حلقة مفرغة، وغدت الآن ألعوبة في أيدي اللاعبين الكبار، وحلّ الأزمة مرهونٌ بالقضاءِ على هذه الأدوار واستطالاتها.