ربع الساعة الأخيرة قبل الاستفتاء
بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد
يأتي استفتاء جنوب كردستان على الاستقلال في ظروف داخليّة كردستانيّة، إقليميّة ودوليّة، متسارعة ومتقلّبة، بحيث يصعب التكهّن بمسارها، وإن بدت للوهلة الأولى أنّها تنحو إلى رسم خرائط جيوسياسيّة جديدة، إلا أنّها في ذات الوقت، عاصفة، وفكّ شيفرات التطوّرات اللاحقة وتأثيراتها على الكيانات – الجديدة والقديمة – ليست بتلك السهولة التي يتوقّعها البعض، خاصّة إذا ما كانت خارج دائرة الفعل وصنع القرار الدوليّ والإقليميّ، بشقّيه السياسيّ والعسكريّ.
ضرورة التوافق والإجماع ما قبل الاستفتاء
الاستفتاء، وإذا ما قرأناه في الأدبيّات السياسيّة التقليديّة والقوانين والتشريعات المتعارف عليها، نجده حالة حضاريّة متقدّمة جدّاً، تُفيد في حَلّ الكثير من المعضلات والمشاكل العالقة والقضايا الخلافيّة، والتي بحاجة إلى البتّ فيها، وهي في هذا تتجاوز في قوّة منطقها وشرعيّتها الكثير من الدساتير والقرارات، وحتّى الدستور نفسه يأخذ شرعيّته من خلال الاستفتاء. ويمهّد لانطلاقة جديدة، تؤسّس بناء عليه حالة متقدّمة عن سابقتها، ويتمّ تجاوز اللغط والتردّد السائد حيال اتّخاذ القرار بشأن القضيّة “المُستَفتى” عليها، وتكون نتيجة الاستفتاء بمثابة قرار الفصل الذي يُتّخذ من قبل الأغلبيّة، وفق البديهيّة الأولى في الديمقراطيّة، “الأخذ برأي الأغلبيّة”.
خَيار الشعب في باشور كردستان في إجراء الاستفتاء؛ حقّ طبيعيّ، ويجب أن يُحترم، بغضّ النظر عن الأهداف والغايات، لكن في ذات الوقت عليه، يستوجب التوافق والاجماع بين القوى السياسيّة، ما قبل الاستفتاء، الذي لا يقلّ أهميّة عن الاستفتاء نفسه، بوصفه – أيّ الاجماع ولو بحدوده الدنيا – شرط لا مفرّ منه لإنجاح الاستفتاء بطرق سليمة وشرعيّة.
أزمات الإقليم وانعكاسها على الاستفتاء
داخليّاً، جنوب كردستان، ومنذ أكثر من عامين ونصف، لا يكاد يخرج من أزمة، إلا ويدخل أخرى أعمق وأكبر من سابقتها، وليس أوّلها الأزمة الاقتصاديّة، والقصور في دفع المرتّبات الشهريّة للموظّفين والعاملين بما فيهم المدرّسين، رغم العوائد الكبيرة لبيع النفط، وتدهور القدرة الشرائيّة للمواطن، إلى جانب الانتشار اللا محدود في عدد الشركات الأجنبيّة، وخاصّة التركيّة، العاملة في الإقليم، تحت اسم “الاستثمار”، والتي لا تعود بتلك الفائدة الاقتصاديّة المرجوّة، بقدر ما تمتصّ خيراته وثرواته، وتسيطر على سوقه، وتجبره لأن تكون محكومة لها فقط.
وإذا ما تأمّلنا جيّداً الحالة العسكريّة المترهّلة، وانعكاسها في استمرار تعرّض العديد من المناطق إلى هجمات متتالية من مرتزقة داعش، كركوك مثالاً، وثقل الهزيمة في شنكال عام 2014، إلى جانب انقسام القوّة العسكريّة (البيشمركه) إلى طرفين، وعدم توحيدهما، رغم التحديّات المصيريّة الكبيرة التي تواجه الإقليم عموماً والتي ازدادت بعد قرار إجراء الاستفتاء، مضافاً إليها ولاء كل طرف إلى دولة إقليمية ما، يجعل من الحماية، قضيّة تثير الكثير من التساؤلات والهواجس، حيث أنّ هزيمة شنكال وقبلها انحياز قيادتها السياسيّة إلى محاور إقليميّة معيّنة، أوهنت من عقيدتها القتاليّة، التي لم تكن يوماً ما قابلة للنقاش والتشكّك فيها.
مخاوف ما بعد الاستفتاء
حالة الانقسام السياسيّة التي كانت سائدة طيلة السنوات الماضية، لربّما تلقي بظلالها على الاستفتاء، إقصاء قوى بعينها من الشراكة السياسيّة في إدارة البلاد، وبطرق غير ديمقراطيّة، تعطيل البرلمان، التمديد للرئاسة، وبشكل غير دستوريّ وشرعيّ، ازدياد حالة الاستياء داخل الإقليم من استفراد الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ بالقرار السياسيّ والاقتصاديّ والإدارة، وفرض نموذج “الإدارتين”، مثلما كان في تسعينات القرن الماضي، ووصول الإقليم إلى حالة من التضاد، توحي باندلاع صراع، متعدّد الجوانب، والكلّ كان يتخوّف من تطوّره إلى اقتتال داخلي “الأخوة”، بكلّ مساوئه وتداعياته.
يعتقد البعض، وضمن المعطيات التي أتينا عليها، أنّ الاستفتاء في راهن الإقليم، سعيٌ نحو تثبيت نظام حكم فرديّ، يستأثر بالقرار، ولربّما نتائج الاستفتاء، بما فيها الإعلان عن ” الدولة الكرديّة”، يكرّس لديكتاتوريّة مطلقة، لتُعيد إنتاج نظام استبداديّ، يستغلّ مشاعر وعواطف السذّج، ولا يأبه بمعادلات التغيير والربح والخسارة، لتغدو في النهاية مغامرة غير محسوبة العواقب.
توحّد الخطاب السياسيّ العربيّ ضدّ الكرد
بكلّ الأحوال لسنا من دُعاة ومناصري هذه الرؤية التشاؤميّة، بل إنّنا نقرأ ونستقرئ واقعاً راهناً، يمرّ به الإقليم، دون أن نلقي بكلّ أخطائنا على مشجب الحكومة المركزيّة العراقيّة، التي لم تألُ جَهداً في رفض الاستفتاء، وانبرت تتعالى الأصوات النشاذ، التي اعتدنا أن نسمعها في كلّ زمان ومكان إذا ما كان الموضوع متعلّقاً بالقضيّة الكرديّة، لتعيد، وفي صورة سيّئة، إنتاج مواقف الحكومات العراقيّة المتعاقبة، وكأنّها جميعها قد تشرّبت من مدرسة البعث المقيت، لتعلن عداءها السافر لحقوق الكرد، وتوحّد خطابها السياسيّ والطائفيّ ضدّهم رغم الصراع بيها والذي يأخذ أكثر من منحى، حتّى حدا بجامعتها العربيّة الميّتة سريريّاً، أن ترفض الاستفتاء وتعتبره “تقسيماً لأراضي دولة عربيّة”، فيما آلة الفتك والتقسيم تعمل ليل نهار في كافة بلدانها العربيّة، وهي لا تنبس ببنت شفة، بل تساهم أحياناً كثيرة في زيادة شرذمتها وتجزئتها.
إعلان رئيس الوزراء العراقيّ أنّ الاستفتاء “غير شرعيٍّ” استناداً إلى “الدستور الفيدراليّ العراقيّ”، والتلويح بعمل عسكريّ “قادم”، في حال إصرار الإقليم “البارزانيّ تحديداً”، على المضيّ قُدُماً في إجراء الاستفتاء. وتلاها ارتفاع أصوات من “الحشد الشعبيّ”، رافضة بقوّة الاستفتاء، ومهدّدة علناً بحرب ضروس، إثر زيارة قاسم سليمانيّ إلى هولير، وعدم سماع الأخير كلامه مطمئناً وشافياً بالعدول عن إجراء الاستفتاء، أو تأجيله على الأقلّ.
دعوة العباديّ إلى مناقشة الاستفتاء، والاحتكام إلى الدستور، محاولة لتمييعه وإدخاله في التسويفات التي لا طائل منها، وهي دعوة غير مبنيّة على صدق النوايا، وإنّما تنمّ عن رفض مطلق للحقّ الكرديّ، حتّى وإن اختلفنا أو وافقنا على صيغة الانفصال وإنشاء الدولة الكرديّة من حيث المبدأ، فالعبادي وحزب الدعوة الإسلاميّة برئاسة رئيس الوزراء السابق نوري المالكيّ، يدوران في الفلك الإيرانيّ، ولا قدرة لهما في اتّخاذ أيّ قرار دون الرجوع إلى “الوليّ الفقيه”، وهدّدت إيران بإغلاق حدودها مع الإقليم في حال إجراء الاستفتاء، مع محاولاتها المستمرّة لإحداث شرخ في الصفّ الكرديّ في الجنوب، عبر استمالة بعض الأطراف السياسيّة، وإقناعها برفض الاستفتاء وعدم المشاركة فيه.
الطلاق بين بغداد وهولير ليس وليد الاستفتاء
لكن رغم التعطيل المتعمّد للبرلمان الكرديّ منذ أكثر من سنتين ونصف، فها هو قد اتّخذ قرار إجراء الاستفتاء، وبمشاركة كافة القوى السياسيّة في الجنوب، متحديّاً بذلك قرار البرلمان العراقيّ، والبيان الذي أصدرته رئاسة الوزراء، هدّدت فيه الإقليم بجملة من الإجراءات والتدابير، التي من شأنها أن تقطع شعرة معاوية بين بغداد وهولير.
المتتبّع لمسار العلاقات بين الإقليم والحكومة المركزيّة، يستنتج وبكلّ سهولة، أنّ الانفصال واقع منذ فترة ليست بأقلّ من عامين، الإقليم يستخرج النفط ويصدّره وفق مشيئته دون الرجوع إلى الحكومة المركزيّة، وقبلها، الحكومة المركزيّة قطعت عن الإقليم حصّته من الميزانيّة الفيدراليّة والتي نسبتها (17%)، قيودٌ على مواطني الإقليم ممّن يدخلون المناطق العربيّة، الخلافات على المادة (140)، النزاع حول كركوك، شروع حكومة الإقليم على حفر خنادق ووضع متاريس قبل فترة بذريعة محاربة مرتزقة داعش، وجود تمثيل دبلوماسيّ أجنبي في هولير، تسليح البيشمركه دون إذن من وزارة الدفاع العراقيّة.
إذاً، لماذا هذا التوتّر والتصعيد الجديد، هل فقط الإعلان عن دولة كرديّة يقضّ مضاجعهم، ونحن هنا لسنا بصدد تأييد قرار الاستفتاء والاستقلال أو رفضه، فقط نحن نوصف الحالة ونبيّن بأنّ من كانت على أعينه غشاوة، فليرى جيّداً.
تركيّا التهديد الأقوى على الاستفتاء ونتائجه
التحدّي الأقوى للاستفتاء ونتائجه، يأتي من تركيا، وهي ككلّ مرّة تعلن وللعالم أجمع أنّها ضدّ “حقوق الكرد وفي أيّ جزء من كردستان كان”، تركيّا التي كان يعتبرها “القائمون والمصرّون” على إجراء الاستفتاء، أنّها “أكثر من تتفّهم الكرد وحقوقهم”.
التهديد العلنيّ للرئيس التركيّ أردوغان، والذي توعّد قيادة إقليم جنوب كردستان، بأنّ رسالة تركيّا بشأن الاستفتاء ستصدر في 22 من الشهر الجاري، بعد اجتماع خاصّ لما يسمّى “مجلس الأمن القوميّ التركيّ”، بعد أن حثّت البارزانيّ للإقلاع عن فكرة الاستفتاء، معتبراً أنّ نشوء أيّ كيان جديد يهدّد التوازنات في المنطقة، ويغيّر في خرائطها.
تواجد أكثر من (18) قاعدة عسكريّة تركيّة في جنوب كردستان، وتغلغل الاستخبارات التركيّة الـ(الميت MIT) في المفاصل العسكريّة والسياسيّة في الإدارة الكرديّة، وارتباط بعض القيادات العليا بالسياسة التركيّة، يضع مستقبل الإدارة الحالية والكيان القادم على كفّ عفريت، ويقوّض فرض استقلاله وقراره السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ، وهو الجانب الأكثر خطورة في عمليّة التحوّل الجديدة في الإقليم، ويعرّض مستقبلها إلى هزّات عنيفة.
ما البديل الأمريكيّ لتأجيل الاستفتاء..؟؟
الإدارة الأمريكيّة من جانبها، طالبت إدارة جنوب كردستان بالتريّث وتأجيل الاستفتاء، واجتماع مبعوث الرئيس الأمريكيّ بريت ماكغورك مع القيادة السياسيّة في الإقليم، وطرحه “بديلاً” للاستفتاء، هو بحدّ ذاته إحدى رسائل الضغط على إدارته، وإرضاء للدول الإقليميّة، للحفاظ على التوازنات السياسيّة العسكريّة القائمة. رئاسة الإقليم، وعدت الجانب الأمريكيّ، بمناقشة “البديل” مع القوى السياسيّة في الجنوب، ولكن لم يكشف الطرفان، لا الأمريكيّ ولا الكرديّ، عن هذا البديل، والذي ربّما يتجاوز سلّة من “الإغراءات والمحفّزات” التي من شأنها إعادة فتح الحوار بين بغداد وهولير، وهو ما لمّح إليه رئيس الإقليم، بأنّه “مستعدّ للحوار” مع بغداد؛ ولكن بعد الاستفتاء، الأمر الذي يمكن تفسيره بأنّه “تقسيم ما تبقّى من تركة الدولة العراقيّة”.
قنديل والقرار الحاسم والتاريخيّ
المساندة الأقوى والردّ الحاسم في إنهاء الجدل القائم حول الاستفتاء ونتائجه، جاء من قنديل، حيث صرّحت قيادة حزب العمّال الكردستانيّ، ومنذ إعلان موعد الاستفتاء في شهر تموز الفائت، بأنّها “تحترم قرار الشعب في جنوب كردستان وتدعمه”، والترجمة العمليّة المباشرة لهذا القرار التاريخيّ الذي سيقلب كافة موازين القوى في جنوب كردستان والمنطقة، تمثّل في وصول أكثر من (1000) مقاتل من الكريلا إلى كركوك واستقبالهم من قبل الأهالي والقيادة السياسيّة والعسكريّة، أعقبه تصريحٌ ناريٌّ من القائد مراد قره يلان “بأنّ كركوك خطّ أحمر”، محذّراً كلّ من يحاول الاقتراب منها أو مسّها، مؤكّداً استعدادهم لحماية الإقليم بأكمله، مثلما فعلوا في شنكال أمام مرتزقة داعش. وأعتقد أنّ هذا القرار التاريخيّ هو الضمانة الوحيدة في حماية الإقليم من أيّ ارتدادات سلبيّة على نتائج الاستفتاء، رغم وجود شبه إجماع كردستانيّ حوله، وقد لاقى ارتياحاً كبيراً لدى أبناء الشعب الكردستانيّ، وهو ما تتحسّب له كافة القوى المناوئة للكرد وفي كلّ جزء من كردستان.
ورغم الضغوط المتعدّدة على قيادة الإقليم بضرورة تأجيل الاستفتاء، إلا أنّها أدخلت نفسها في مأزق بحيث بات من الصعب تأجيله، وهو في أفضل أحواله، لن يكون ملزماً بالإعلان عن الدولة الكرديّة في هذه الأجواء المضطّربة، والرفض من قبل كافة الأطراف الإقليمية والدولية.