باشور كردستان في قلب العاصفة

بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد

اندلاع أحداث باشور (جنوب) كردستان في ظلّ الأزمة المتصاعدة يوميّاً، والانقسامات السياسيّة والمجتمعيّة الحادّة، تنذر بمزيد من الحرائق السياسيّة، ربّما تطال ليس ما أفسدته سلطات الإقليم طيلة عقود من سيطرتها وحكمها فقط، بل حتّى التركيبة الثقافيّة والبنى الأساسيّة في المجتمع، وتنسف معها إرث وتراكمات بناه الكرد في باشور كردستان إبّان نضاله وثوراته المستمرّة منذ أمد بعيد.

“لا نريد “دولة” سجونها أكثر من مشافيها ومدارسها وجامعاتها”

بالتأكيد إنّ الأزمة ليست وليدة يوم أو يومين، وبالمثل، ليست ردّة فعل على نتائج الاستفتاء وحده، فهي تمتدّ بجذورها إلى بدايات بناء الإقليم والأسس التي تشكّلت عليها، وأبدينا حينها رأينا في الكيفيّة التي تمّ فيها تشكيل الإقليم نتيجة توافقات دوليّة “ظرفيّة – خارجيّة لا ذاتيّة”. واختلفنا مع عدد من المثقّفين والسياسيين الكرد آنذاك، واعتبروا أنّنا “نسير ضدّ التيّار ولم نفهم المعادلة الدوليّة حينها”، وأنّنا ضدّ حصول الكرد على أيّ حقّ إن لم يكن مرتبطاً بتيّار سياسيّ معيّن. وقلنا حينها، إنّ أيّ دولة أو كيان أو إدارة ما وسمّها ما شئت، يكون عدد السجون والمعتقلات أكثر من عدد المدارس والجامعات والمعاهد والمشافي، فإنّنا لا نريد هذه الدولة، وكذلك عندما يكون المواطن فيها “مهدور الكرامة” وعاطلاً عن العمل ولا يقدر على تأمين قوت يومه لسدّ رمقه وتعليم أبنائه، فإنّنا لا نريد هذه الدولة، ولسنا فرحين ومتلهّفين كثيراً لرفع العلم الكرديّ في الدولة العتيدة إن كانت “إنسانيّتي منتهكة” فيها.

الفساد نوعان؛ ذاتيّ وموضوعيّ

الحقيقة التي تجلّت بكلّ جوانبها، أنّ ما تم تطويره في الإقليم لم يكن “نموذج دولة ولا حتّى حكماً ذاتيّاً أو إقليماً فيدراليّاً”، بل كان أقرب إلى حكم حزبين تقاسما السلطة فيما بينهما، فيما غابت الإدارة الرشيدة عن كافة المؤسّسات والهيئات، ولم تأخذ بالمعايير المتعارَف عليها في كلّ الإدارات في العالم، وهذا بحدّ ذاته كان البؤرة الأولى والرئيسيّة لولادة الفساد. فإن سَلِمنا بأنّ الفساد نوعان؛ “ذاتيّ وموضوعيّ”، والناس لا يولدون من بطون أمّهاتهم فاسدين؛ فإنّنا حينها ندرك بأنّ مؤسّسات الحكم في باشور ولّدت وخرّجت “الفاسدين” رغم أنّهم لم يكونوا فاسدين قبل مشاركتهم في تلك المؤسّسات، وهذا بالدرجة الأولى مرتبط بغياب الشفافيّة والتشريع الصائب والقوانين الناظمة لعمل المؤسّسات، وتفشّي المحسوبيّة واستبعاد عناصر التكنوقراط والمختصّين ورجالات الدولة، كما يُقال، ليُزجّ بعناصر لها ولاءاتها الحزبيّة والعسكريّة والعشائريّة، لنصل بالنتيجة إلى خلطة “هجينة” بعيدة عن الحسّ المؤسّساتي والإداريّ، هذا عداك عن الحسّ الوطنيّ والقوميّ.

فجوة عميقة بين الشعب والإدارة

ظلّ الحزبان الرئيسان في باشور، الديمقراطيّ الكردستانيّ والاتّحاد الوطنيّ الكردستانيّ، ممسكان بكافة مفاصل الحكم والإدارة، السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، ولم يفسحا المجال أمام مشاركة ديمقراطيّة واسعة، ليساهم شعب باشور وقواه السياسيّة والشعبيّة في إدارة الإقليم، والإشراف على الموارد وإبداء رأيه في قضاياه الرئيسيّة التي تمسّ حياته بشكل مباشر. حصر الإدارة في نطاق الحزبين، أدّى إلى حدوث فجوة عميقة بين الإدارة والشعب، رافقها الفساد المستشري في كافة مفاصلها، والذي أفضى إلى أزمة سياسيّة قبل أن تكون اقتصاديّة، وهي بدورها أحدثت انفجارات أقلّ ما يُقال عنها أنّها لن تخمد في وقت قصير. وجاءت قضيّة الاستفتاء وفشله؛ لتسرّع من عمليّة التحام القوى المناهضة لحكم الحزبين واستفرادهما بالسلطة، وتبرز تناقضات كثيرة لا يمكن حلّها عبر اتّباع أسلوب الترقيع والتدليس.

لا تظاهرات وانتفاضات عفويّة وتلقائيّة

أثبت التاريخ، وبما لا يدع مجالاً للشكّ، أنّ الناس لا تخرج في التظاهرات والانتفاضات من تلقاء نفسها، بل ينظّمها ويقودها شخصيّات متمرّسة في العمل السياسيّ والتنظيميّ، وهنا لا نأخذ الأمر من باب المؤامرة كما قد يفسّرها بعض السلطويين، ولكن نحلّلها من جانب التنظيم والإعداد. فبداية الأحداث في سوريّا، كانت يد حركة الإخوان المسلمين وأجهزة العديد من الاستخبارات الإقليميّة والدوليّة وراءها، كذلك الأمر في باشور كردستان أيضاً. فعلاوة على الامتعاض الشعبيّ من سلطة الحزبين؛ فإنّ أجهزة استخبارات دول الجوار ضالعة في تأجيج الاحتجاجات ضدّ حكومة الإقليم، وهي تستغلّ النقمة الشعبيّة ضدّها، وتصريح رئيس الوزراء العراقيّ العبادي كان واضحاً في هذا الصدد، بأنّهم “سيتدخّلون لحماية المتظاهرين من عنف حكومة الإقليم”. فيما إيران تهيّج الشارع، مستغلّة الفوضى لتضعف قيادة باشور وتدفعها لمزيد من التنازلات لصالح الحكومة العراقيّة والحشد الشعبيّ، فيما إذا بدأت أيّة مفاوضات بينهما مستقبلاً، وكذلك لتثبيت عناصر موالية لها في حكم الإقليم، لتدفع باتّجاه الانهيار التام في الإقليم، وهناك مؤشّرات قويّة في هذا الاتّجاه، من خلال العمل في المناطق التي يسيطر عليها الاتّحاد الوطنيّ الكردستانيّ والموالي لإيران، وتحشيد الشارع ضدّه.

تركيّا ضالعة في الأحداث وبقوّة

تركيّا من جهتها، لم تأل جهداً في إثارة القلاقل والنزعات الطائفيّة والعرقيّة في الإقليم، وتحاول أن تبدو أنّها تتأمّل المشهد من بعيد، رغم أنّها حاولت إنقاذ حليفها “نيجيرفان البارزانيّ” من الأزمة التي يمرّ بها عبر دعوته لزيارة أنقرة، ليكون خليفة لعمّه الصامت والمتواري عن الأحداث نهائيّاً. فهي أيضاً تدفع الموالين لها من التركمان إلى استغلال هذه الفرصة للانقضاض على حكومة الإقليم والتحكّم بمسارات الأحداث، لتتحوّل إلى انتفاضة عارمة تدكّ كافة أركانها. ورغم أنّ المناطق التي يسيطر عليها الديمقراطيّ الكردستانيّ أقلّ توتّراً من مثيلاتها في السليمانيّة، ولم تصل الاحتجاجات إلى مركز هولير بعد، حيث مازال الديمقراطيّ الكردستانيّ ممسكاً بقوّة الأمن والبيشمركه بزمام المبادرة، إلا أنّ استمرار التظاهرات والاشتباكات بين المدنيين والقوّات الأمنيّة، وطلب قيادة الاتّحاد المؤازرة من الديمقراطيّ الكردستانيّ، يشير إلى أنّ الاحتجاجات ستصل آجلاً أم عاجلاً إلى تلك المناطق أيضاً، فلا يمكن الفصل بين سوء الإدارة في السليمانيّة وهولير بمطلق الأحوال.

صراع بين أجنحة قيادة “الاتّحاد”

كما أنّ الخلافات بين قيادات الاتّحاد التي ورثتها من الراحل جلال الطالبانيّ، أيضاً تؤثّر في تصعيد المواقف، واستغلال القيادات المتنافسة على زعامة الحزب في توتير الشارع ضدّ قياداتٍ تعتبر من حقّها تولّي دفّة القيادة. فالصراع بين أجنحة الحزب، بافل طالباني ووالدته من طرف، وباقي القيادات التقليديّة من طرف آخر، ينعكس بشكل مباشر على التصعيد في الشارع المنتفض أصلاً. رغم أنّ قوباد طالبانيّ يميل إلى التنسيق مع نيجيرفان في مواجهة الاحتجاجات بمزيد من العنف والقوّة.

الأطراف التي تتّهم حركة “التغيير” و”الحركة الإسلاميّة الكردستانيّة” بتغذية الشارع ضدّ الحزبين الرئيسيين، الاتّحاد والديمقراطيّ، إنّما تسعى إلى الهروب من استحقاقات المرحلة، والعودة بالإقليم إلى المربّع العنفيّ، وتحميل “التغيير” و”الحركة الإسلامية” وزر فشلهما في إدارة الإقليم، رغم انسحاب الأخيرتين من الحكومة ودعوتهما إلى “حكومة انتقاليّة” ريثما يذهبون إلى الانتخابات بعد ثلاثة أشهر.

KCK والبيان التاريخيّ

إنّ أسلوب مواجهة التظاهرات عبر الاستخدام المفرط للقوّة، ينذر بتصعيد غير مسبوق، ربّما تتحوّل إلى نوع من الحرب الأهليّة، قد تكون عواقبها وخيمة على الإقليم وتجربته. فالتصريحات الصادرة من قيادة الحزبين، الديمقراطيّ والاتّحاد، تشير إلى الدخول في معترك، ربّما يصعب الخروج منه بسهولة. فالتصرّف مع المتظاهرين وفق أسلوب الدول القمعيّة التي اندلعت فيها الثورات، لن يجديَ نفعاً، بل يزيد من الاحتقان، ويبدو أنّها تسير في ذات الاتّجاه، فسقوط ضحايا برصاص قوّات الأسايش والأمن الخاص التابع للحزبين، ودون أن يرفّ لهم جفن، إنّما ينقل تجربة الدول الفاشلة كسوريّا وليبيا والعراق إلى إقليم كردستان أيضاً.

ربّما من المفيد جدّاً ذكر البيان الصادر عن قيادة منظومة المجتمع الكردستانيّ KCK والذي ركّز فيه على ضرورة الإنصات لمطالب المتظاهرين، وأنّها “انتفاضة مشروعة” ضدّ الفساد وغياب الحقوق، وأنّه إذا ما تمّ التعامل مع هذه التظاهرات وفق أسلوب حضاريّ وتلبية مطالب المحتجّين، فسيتحوّل الإقليم إلى واحة للديمقراطيّة والحرّيّة.

أمريكا والبحث عن بديل للحزبين

أمريكا من جانبها مازالت تلتزم الصمت حيال التظاهرات، فهي أيضاً تسعى من خلالها إلى إجراء تغييرات في الإقليم، تتوافق مع توجّهاتها الجديدة في العراق والمنطقة، عبر الدفع ببروز قيادات جديدة تدير الإقليم وتقوده إلى أن يتساوق مع متطلّبات المصالح الأمريكيّة في المنطقة. التحالفات التي بناها كلّ من الاتّحاد الوطنيّ الكردستانيّ مع إيران، وكذلك الديمقراطيّ الكردستانيّ مع تركيّا؛ لم تعد تناسب المصالح الأمريكيّة، أمريكا التي تُعدّ العدّة لفتح مواجهة شاملة مع إيران، لن تقبل بالعلاقة الحميميّة بين الاتّحاد وإيران، كذلك فهي منزعجة كثيراً من الترابط العضويّ بين الديمقراطيّ وتركيّا. انتشار أكثر من (18) قاعدة تركيّة في باشور كردستان، وتغلغل الشركات التركيّة في مفاصل اقتصاد الإقليم واستئثارها بحصّة الأسد من الاستثمارات فيه، لن ترتاح له أمريكا، وهي الآن تبحث عن بديل لكلّ من الاتّحاد والديمقراطيّ في قيادة الإقليم، وبالتأكيد لا حركة “التغيير” ولا ” الحركة الإسلاميّة الكردستانيّة” مؤهّلتان لذلك، فهي تسعى إلى خلق بديل يكون أكثر مواءمة مع مصالحها ومع الحكومة العراقيّة أيضاً، ربّما تجد في “برهم صالح” رئيس حركة “الديمقراطيّة والعدالة” والمنشقّ عن الاتّحاد الوطنيّ، بديلاً لقيادة الإقليم.

على القوى السياسيّة في جنوب كردستان الآن الوقوف بجدّيّة عند أسباب اندلاع تلك الاحتجاجات والتظاهرات، وإجراء التغييرات السريعة في بنية وهياكل مؤسّسات الإدارة، ومحاسبة الفاسدين والمتسلّقين عليها، وتقديمهم لمحاكمات عادلة وشفّافة، وتقديم نقد ذاتيّ صريح للشعب الذي عانى الويلات على يد أجهزة الإدارة، وتفتح  أمامه الأبواب للمشاركة في اختيار ممثّليه في المجالس والوزارات، عبر انتخابات نزيهة وتحت إشراف دوليّ، وقطع الطريق على كافة المتربّصين بالإقليم شرّاً، وإلّا فإنّ مصير الإقليم برمّته على كفّ عفريت.