إيران … ثورة على الثورة (1 – 2)

بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد

اختلفت الآراء والمواقف حول شرح أسباب وأبعاد الاحتجاجات الشعبيّة في إيران، ولكنّها اتّفقت وأجمعت على أنّ موّلدها واحد؛ السلطة الشموليّة المتستّرة تحت عباءة “الدين” و”المذهب”، والحاكمة بالحديد والنار.

الغنى الثقافيّ للشعوب الإيرانيّة

تمتلك إيران – كشعوب إيرانيّة وليس كشعب فارسيّ فقط – إمكانات ماديّة وثقافية عريقة وكبيرة، غائرة في التاريخ، كإحدى الشعوب الرئيسة التي ساهمت بجدارة في بناء حضارة الشرق، وتركت بصمتها عليها في العديد من المحطّات. فالشعوب الإيرانيّة لديها من التقاليد الديمقراطيّة والإرث الحضاريّ، ما يؤهّلها لأن تجدّد نمط مجتمعاتها وأسلوب عيشها وباستمرار، ولم تقف – تلك الشعوب – عاجزة في مراحل تطوّرها التاريخيّ عند أيّ من المنغّصات التي من شأنها تقييد حركتها، بل تجاوزتها بفعل تراكمات الوعي والثقافة لديها، حتّى دحرت أكبر الإمبراطوريّات استناداً إلى هذه القوّة المعنويّة أوّلاً ومن ثمّ الماديّة.

عمليّة “أجاكس” والصراع على إيران

في العصر الحديث، ورغم وقوع إيران تحت الهيمنة الاقتصاديّة والاستخباراتيّة الإنكليزيّة ومن ثمّ الأمريكيّة بشكل مباشر، إلا أنّ هذا لم يمنع شعبها من قول كلمته أمام ذاك التوغّل الموحش الذي فتح له شاه إيران المخلوع “محمّد رضا بهلوي” أبوابها على مصراعيها أمام الشركات الغربيّة في السيطرة على موارد إيران النفطيّة والطبيعيّة. فقرار رئيس الوزراء “مصدّق” بتأميم النفط الإيرانيّ عام 1951، وتحدّيه القوّة الأمريكيّة، شكّل منعطفاً حاسماً نحو إعادة الهيبة للشعب الإيرانيّ ليدير موارده “وطنيّاً”، رغم تكالب الاستخبارات الأمريكيّة والإنكليزيّة عليه والتي أوصلته إلى حبل المشنقة، في أكبر عمليّة استخباراتية نفّذت في المنطقة، سمّي حينها بعمليّة “أجاكس”.

جمهوريّة مهاباد امتداد لوعي تاريخيّ لشعوب إيران

قبلها، ثورة الشعب الكرديّ في روجهلات (شرق) كردستان، الواقعة تحت الاحتلال الفارسيّ، عام 1946 بقيادة “قاضي محمّد” وإعلان جمهوريّة مهاباد – التي تمرّ ذكراها السنويّة في 22 من هذا الشهر – هي امتداد طبيعيّ وتاريخيّ لوعي نشأ وتطوّر بين الشعوب المتلاحقة ثقافيّاً وتاريخيّاً، وكذلك ثورة شعب أذربيجان، هذا إن قرأنا الثورتين بتجرّد من الدعم الذي تلقّته من الاتّحاد السوفياتيّ آنذاك.

“نظام الملالي” واستنفاد دور “الشاه”

وصول ثلّة الملالي إلى سدّة الحكم في إيران عام 1979، إنّما جاء على قطار غربيّ، بعد أن استنفد شاه إيران أسباب بقاء سلطته واستمرارها اقتصاديّاً وسياسيّاً وحتّى عسكريّاً، هذا التغيير في إيران كان رغبة غربيّة قبل أن تكون إيرانيّة، وأكثر ممّا كانت تحرّكه دوافع وسعي “الخمينيّ” الذي احتضنه الغرب ورعاه طيلة فترة تحضيره لما يسمّى “الثورة الإسلاميّة في إيران”.

أوهم الغرب الشعوب الإيرانيّة من خلال الضخّ الإعلاميّ، بفكرة المخلّص “الخمينيّ” ونهجه الإيديولوجيّ الدينيّ، كبديل لتحكّم المنظومة الأمنيّة التي رسخّها شاه إيران عبر جهاز “السافاك” في التضييق على الحرّيّات المجتمعيّة من جانب، ومن جانب آخر، حاول إنقاذ “حليفه” الشاه من السقوط. فأثناء وصول “الخمينيّ” ورفاقه إلى مطار طهران قادمين من فرنسا عبر بغداد، استقبلتهم جموع قدّرت حينها بـ(5) ملايين شخص نزلوا للشوارع، في حين كان التلفزيون الإيرانيّ الرسميّ في ذات التوقيت يبثّ صوراً لاستقبال الجماهير لشاه إيران في المطار، ما أربك البعض، إلى أن انجلت الحقيقة، حيث كانت تلك المقاطع تُبثُّ عبر الأقمار الصناعيّة الأمريكيّة فوق إيران، بعد أن احتجز “الخمينيّ” طاقم السفارة الأمريكيّة في طهران.

“تصدير الثورة” إستراتيجيّة نظام الملالي

بشّر نظام الملالي في بداية عهده، بالمزيد من الديمقراطيّة والحرّيّات العامّة، لكنّه وبعد أن رسّخ من بنيته، انقلب على كافة شركائه في “الثورة” وخاصّة الكرد، وتعامل بقبضة حديديّة مع كلّ من عارض نظامه و”ولاية الفقيه”، واتّخذ من مبدأ “تصدير ثورته” المزعومة، إستراتيجيّة دائمة له، تحرّكه نوازع التمدّد في المنطقة تحت شعارات ساقها لإيهام الشعوب، بمرجعيّته “الشيعيّة” الحقّة دون غيرها، وحصر في نفسه قيادة الثورة، وبرّر مسوّغات انتشارها، دون رادع أخلاقيّ أو حقوقيّ، ليدّعي أنّ نظامه الأجدر بقيادة “الإسلام”، حسب زعمه في أدبيّاته السياسيّة وثقافته التي بشّر بها عبر رجال الدين، وأضفى عليها هالة من “القدسيّة”، كأحد الأساليب لنشر إيديولوجيّته وفكره الدينيّ والمذهبيّ.

تصفية “رفاق ثورته”

الانقلاب في توجّهات نظام الملاليّ، لاقى رفضاً دوليّاً كبيراً وخاصّة من قبل الدول الغربيّة، التي لم تتأخّر في إشعال فتيل الحرب العراقيّة – الإيرانيّة التي دامت ثمانية أعوام، وهدرت من إمكانات البلدين الكثير، وتسبّبت بمقتل أكثر من مليون قتيل ومن الطرفين. وحقيقة جاءت تلك الحرب عند رغبة نظام الملالي، ليوطّد نظامه القمعيّ ويُسكِت كافة الأصوات المعارِضة له في الداخل، أكثر ممّا كانت تحدوه رغبة في كسب صراع مع عدوٍّ خارجيّ، فكلّ نظام قمعيّ وديكتاتوريّ يخلق حروباً خارجيّة وهميّة، ليقضي على الحرب الداخليّة التي تقضّ مداميك نظامه، فخلال الحرب قام بتصفية كافة رموز المعارضة العلمانيّة في إيران، حتّى رئيس وزرائه الذي عُيّنَ بداية استيلائه على السلطة “شهبور بختيار” لم يسلم من التصفية، وكذلك زعيم الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ – إيران الدكتور “عبد الرّحمن قاسملو” ومن بعده الدكتور “صادق شرف كندي” وزملاؤه في ألمانيا.

تشكيل أحزاب وحركات دينيّة – شيعيّة

عمد النظام الإيرانيّ، بعد الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، إلى انتهاج سياسة جديدة، محورها تشكيل أحزاب وحركات سياسيّة ذات توجّه دينيّ مذهبيّ تُدين له، وتأتمر بأوامر “الوليّ الفقيه”، وتحقّق له رغباته في التمدّد والانتشار في المنطقة، وتعتبر أداته المُثلى في بلدانها. “حزب الله” اللبنانيّ، و”حزب الدعوة الإسلاميّة” في العراق، و”الحركة الحوثيّة” في اليمن، والعديد من الحركات الدينيّة – الشيعيّة في أفغانستان وباكستان، لعبت أدواراً مهمّة في نشر الفكر الشيعيّ، ودافعت وحافظت على مصالح النظام الإيرانيّ في بلدانها، على رغم معارضة الغالبيّة العظمى من شعوب تلك البلدان لتوجّهاتها.

التركيز على “التصنيع العسكريّ” وتعزيز ترسانته

التورّط الإيرانيّ في مشاكل المنطقة وأزماتها، والبحث عن نفوذ إقليميّ لها “كدولة ونظام دينيّ قرووسطيّ”، حدا بها لأن تكون هي بالذّات جزءاً من تلك المشاكل، وليس حلّاً لها. فالحروب “العبثيّة” التي افتعلتها في عدد من الدول، وتدخّلاتها الفظّة في أمورها الداخليّة، قابله توجّه محموم نحو تعزيز ترسانتها العسكريّة، وبناء منظومة عسكريّة متطوّرة والتركيز على توسيع آفاق “التصنيع العسكريّ”، قياساً مع دول الجوار والمنطقة، وشعورها بعظمة “القوّة” على غرار كوريّا الشّماليّة والاتّحاد السوفياتيّ سابقاً، وزيادة نسب الإنفاق العسكريّ ودعم الحركات السياسيّة – الدينيّة التابعة لها، كلّ هذه الأمور مجتمعة زادت من العبء على الاقتصاد الإيرانيّ، هذا إلى جانب ظهور طبقة (سياسيّة – عسكريّة – دينيّة) فاسدة، سرعان ما شعرت بالثراء الفاحش، وهي تعتاش على قوت الناس الفقراء الذين يزدادون فقراً كلّ يوم، وفي مقدّمة هذه الشخصيّات وليّ الفقيه  “علي خامنئي” الذي يملك أرصدة بعشرات مليارات الدولارات في البنوك الأجنبيّة، وكذلك القادة العسكريّون ورجال الدين من الحلقة الضيّقة والمشاركة في صناعة القرار، حسب بعض المصادر الغربيّة.

الشروخ المجتمعيّة في إيران وتداعياتها

الشروخ المجتمعيّة التي خلّفها نظام الملاليّ في إيران، وفرضه ثقافة أحاديّة متمثّلة بالفكر الدينيّ الشيعيّ، خلق معه ردود فعل قويّة في العمق، ولكنّها ظلّت خافتة المظهر والشكل، وهي بدأت منذ أن شرع النظام في تصفية الأحزاب والحركات السياسيّة، وقتل الحياة السياسيّة في البلاد، تحت شعار الحكم “بالشريعة”. فشرّع لنفسه ارتكاب كافة الموبقات والمظالم ضدّ شعبه بذريعة “صون الدولة والثورة الإسلاميّة”، في تماهٍ مع الأنظمة الدكتاتوريّة في المنطقة والعالم.

الدعم الذي تلقّاه النظام الإيرانيّ من الدول الغربيّة إبّان صعوده نحو قمّة الدكتاتوريّة والعنجهيّة الدينيّة، شكّل حلقة أخرى من فصول الازدواجيّة الغربيّة في التعامل مع الأنظمة الفاسدة في المنطقة. فضيحة “إيران – غيت” المشهورة رغم استمرار أزمة رهائن السفارة الأمريكيّة آنذاك، إنّما دلّت بشكل واضح على تفضيل الدول الغربيّة لمصالحها على حرّيّة الشعوب وحقوقها. وما لم يُكشف عنه من فضائح مماثلة أعظم وأدهى، وربّما يُكشَف عنها في أوقات لاحقة.

تقوية عضُد النظام الإيرانيّ، مكّنه من التمادي في لعب أدوار تخريبيّة في المنطقة، وتشكيل تحالفات مذهبيّة، عقّدت من الأزمات الموجودة في المنطقة أصلاً، وأوصلتها إلى حدّ الانفجار، لتستغلّها في “نشر الفوضى” وتهدّد كيانات دول وشعوب، ولتخلق معه صراعاً مذهبيّاً؛ سنّياً – شيعيّاً، أجّجته من الطرف الآخر، دول أخرى تقوقعت حول مذهبها “السنّي”، ولتغدو وكأنّها “ثقافة” يسعى كلّ طرف فيها إلى إنهاء الآخر، وعن طريق القوّة العسكريّة والاقتصاديّة وزرع خلايا نائمة وتجسّسيّة، للإجهاز على ثقافة المنطقة في التسامح والعيش المشترك.

يتبع…