تركيّا تكافئ روسيّا … والغرب يتأمّل..!!
بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد
لم يحرز العدوان التركيّ على مقاطعة عفرين، بعد أن دخل يومه الثالث والأربعون، أيّ تقدّم ملحوظ، نظراً للمقاومة البطولية لوحدات حماية الشعب والمرأة وقوّات سوريّا الديمقراطيّة، والتي كبّدت القوّات التركيّة ومرتزقتها مزيداً من الخسائر في العدد والعتاد، وتحرير العديد من القرى التي توغّلت فيها، حيث لم تتمكّن الأخيرة من بسط سيطرتها الكاملة حتّى على قرية واحدة، ومازالت تلك القرى والمناطق تشهد عمليّات كرّ وفرّ مستمرّة ومنذ أوّل يوم للعدوان.
وقوع “القوّات الخاصّة” في المصيدة
المخطّط البيانيّ للعدوان، ومنذ أكثر من عشرة أيام، يشير وبكلّ وضوح، إلى دخوله في طور الهبوط، بعد الضربات القاصمة التي تلقّاها وعلى أكثر من جبهة، فعمد إلى تصعيد غير مسبوق، عبر إقحام “قوّاته الخاصّة” إلى جانب تنظيم ما يسمّى بـ”حماة القرى”، بعد فشل مرتزقته من إرهابيي النصرة ودرع الفرات في تحقيق أهدافه، بل اندلعت خلافات وصلت لحدّ الاشتباكات بين القوّات التركيّة الغازية ومرتزقته، على خلفيّة مقتل العديد من جنوده في جبهات راجو (بليلكو – Bilêlko) وكذلك في جندريسه (بافلوره – Baflûrê). فلجأ، ولأول مرّة، إلى استخدام أسلوب “الإنزال الجويّ” في أكثر من جبهة، مثل “بليلكو” و”عمرا”، ولكن جنوده وقعوا في مصيدة مقاتلي ومقاتلات الـ(YPG) والـ(YPJ)، حيث كلّفته عمليّة الإنزال خسارة كبيرة في أعداد قتلى قوّات النخبة لديه بينهم ضبّاط كبار.
هذه الضربة ووقعها وارتداداتها في الداخل التركي كان كبيراً وصلت لحدّ الصدمة، حيث تصاعدت الأصوات الرافضة للعدوان ضمن شرائح واسعة في تركيّا، إلى أن هدّد وزير الداخليّة بالاستقالة، فيما الأوساط الشعبيّة “تتململ وتتذمّر” من ازدياد أعداد جنازات قتلاهم التي ترِدَهم يوميّاً، وبالعشرات، من عفرين.
استخدام مكثّف للطيران المروحيّ
التطوّر اللافت في سير وتصاعد تيّار المقاومة خلال الأيام القليلة الماضية، هو تمكّنها من إسقاط عدد من الطائرات المروحيّة التركيّة، التي استخدمتها قوّات العدوان التركيّ بكثافة في دكّ المدن والقرى واستهداف منازل المدنيين، وخطرها يفوق خطر الطائرات الحربيّة، من حيث تمكّنها من المناورة، إلى جانب إمكانيّة تملّصها من استهدافات المقاتلين، بسبب تصفيحها المتين، وزيادة أعداد الطائرات المهاجمة، حيث تُغيرُ أكثر من خمسة طائرات معاً على منطقة واحدة، ففي جندريسه لم تهدأ حركة الطائرات لا ليلاً ونهاراً خلال أكثر من 15 يوماً، ورغم ذلك لم تستطع أن تسجّل أيّ دخول إليها، بل تراجعت لتلعق مرارة الهزيمة والخسران.
كسب معركة لا يعني كسب الحرب..!!
إن كسب معركة في قرية أو مدينة ما، لا يعني بالمطلق كسب الحرب وتحقيق نصر نهائيّ، التصوّرات التي بناها أردوغان ومعه كافة مؤسّسات الدولة التركيّة، في سرعة إنجاز المهمّة التي وضعوها نصب أعينهم؛ في السيطرة على كامل جغرافية عفرين فشلت فشلاً ذريعاً. والدولة التركيّة وأجهزة استخباراتها ووسائل إعلامها، وفور دخولهم لقرية ما، يصوّرون مقاطع فيديو وينشرونها عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، في محاولة لزرع اليأس والإحباط في نفوس أهالي عفرين، ليدّعوا بأنّهم حققوا ” نصراً”، وما تلبث أن تحرّر تلك القرية من قبل قوّاتنا، فتنتعش آمالهم مجدّداً في إمكانية كسر شوكة العدوان ومرتزقته، والهدف من هذه اللعبة القذرة؛ الحرب النفسيّة والتأثير على عواطف الناس.
تنصّل تركيّا من المعاهدات والاتّفاقات الدوليّة
حاولت الدولة التركيّة ومنذ بداية تأسيسها عام 1923، التنصّل من المعاهدات والاتّفاقات الدوليّة التي هي وقّعت عليها بالذّات، لأنّها تأسّست على مبدأ الإنكار وهضم حقوق شعوب ومكوّنات تشاركت معاً في تأسيس “الجمهوريّة التركيّة” بعد انهيار وموت “الرجل المريض” أي السلطنة العثمانيّة، وهذا بات عرفاً وسياسة تركيّة نفّذها والتزمت بها كافة الحكومات المتعاقبة في تركيّا. فاحتلالها لقبرص، لم تعترف بها أيّة دولة في العالم، إلا أنّها تحدّت الإرادة الدوليّة وظلّت في قبرص إلى يومنا هذا. ومعاهدة عدم انتشار الأسلحة الكيماويّة واستخدامها، أيضاً وقّعت عليها في عام 1993، إلا أنّها استخدمتها مرّات عديدة ضدّ مناطق الدفاع المشروع في باشور كردستان، وحتّى في شمال كردستان أيضاً، ولم تتورّع في استخدامها في مقاطعة عفرين، وهذا يدلّ على هزيمتها وعدم تمكّنها النيل من المقاتلين، فتعمد إلى استخدام الأسلحة المحرّمة دوليّاً، والقصف العشوائيّ لمنازل المدنيين.
عدم التزام تركيّا بقرار وقف إطلاق النار الصادر عن مجلس الأمن الدوليّ ذي الرقم (2401)، مردّه الخلفيّة والذهنيّة التي تتعامل بها تركيّا مع كافة القرارات الدوليّة، ولم يكن مستغرباً بالنسبة للشعب الكرديّ وكذلك لكافة الدول أنّ تركيّا ستعمد إلى خرق قرار وقف إطلاق النار، والحجج والذرائع التي ساقتها تركيّا في أنّها “ليست في حالة اشتباك، وإنّما تحارب الإرهاب” واهية ولم تقنع أحداً وخاصّة الدول الدائمة العضويّة في مجلس الأمن.
روسيّ ماطلت تحت ضغوط تركيّة
والضغوطات الأمريكيّة والفرنسيّة عليها في ضرورة التزامها بالقرار الدوليّ، أهملتها تركيّا، ويبدو أنّها مصرّة على التورّط أكثر في مستنقع عفرين، مما يعني الدفع أكثر باتّجاه التصعيد وارتكاب مجازر دمويّة بحقّ المدنيين، ولكنّها في ذات الوقت باتت تبحث عن مخارج لها، في ظلّ المقاومة العنيفة من جانب وحدات حماية الشعب والمرأة وقوّات سوريّا الديمقراطيّة.
روسيّا التي طلبت ضمانات من الدول الأعضاء في مجلس الأمن وخاصّة صاحبة مشروع قرار وقف إطلاق النار (السويد والكويت)، بضرورة “إخراج” عناصر جبهة النصرة وباقي الفصائل الإسلامويّة المتطرّفة من الغوطة الشرقيّة لدمشق، سعت من خلالها إلى ضمان عودة الغوطة إلى حضن النظام، ونقل هؤلاء المتطرّفين إلى إدلب، وبرعاية تركيّة، لتعيد الأخيرة تجنيدهم وزجّهم في معركة عفرين، ولتزيد في أعداد مرتزقتها ممّن تعتمد عليهم كرأس حربة في الهجوم. هذا إلى جانب أنّ تركيّا هدّدت أنّها لن توقف دعم مرتزقتها في الغوطة، فيما إذا غيّرت روسيّا من موقفها تجاه عدوانها على عفرين، أي أنّ المماطلة الرّوسيّة لتأخير التصويت على القرار كان بضغط تركيّ عليها.
لعبة تركيّة في إدلب
كما أنّ اللعبة التي تديرها تركيّا في إدلب، من خلال إشعال صراع وهميّ بين مرتزقتها من “جبهة النصرة” وما تسمّى بـ”جبهة تحرير سوريّا”، محاولة للاستفادة من التناقضات بين مرتزقتها، والإمساك بكافة الخيوط، حيث أنّ التيّار “القاعدويّ” المبايع للظواهريّ والمسمّى بـ”تيّار أو كتلة الأرادنة” حيث معظمهم من الجنسيّة الأردنيّة، يرفضون الانجرار وراء المخطّطات التركيّة، ويعتبرون أنّ عفرين غير مهمّة بالنسبة لهم، ويجب التركيز على محاربة النظام في إدلب، وخاصّة بعد تسليم مطار أبو الظهور إلى النظام. والاعتبارات التي يسوقها ذاك التيار، تعتبر “منطقيّة وواقعيّة” من وجهة النظر البراغماتيّة السياسيّة، حيث يولون أهميّة لإدلب لسببين رئيسيين:
الأوّل: أنّ إدلب كمحافظة أكبر مساحة من عفرين، ويمكنهم التحرّك فيها بأريحيّة والاستفادة من هذا العنصر، كما أنّها ملاصقة لمناطق النظام وخاصّة العلويين.
الثاني: في إدلب لهم حاضنة شعبيّة واسعة، أما في عفرين فلا أحد يتقبّلهم، ولا يحبّذون التجاور مع مرتزقة درع الفرات أيضاً.
أما التيّار الآخر الموالي لتركيّا، والذي يمثّله “أبو محمّد الجولاني” فقد انغمس في المخطّطات التركيّة وأصبح جزءاً منها، فهو الذي قام بتسليم مناطق واسعة للنظام وبأمرة الاستخبارات التركيّة، كما أنّ قوّاته تشارك في العدوان على عفرين، وبكلّ قوّة.
تكافئ روسيّا لموافقتها شنّ العدوان على عفرين
والاقتتال الحالي بين الطرفين والذي تقف تركيّا وراءه في كلّ خطوة، ماهي إلا محاولة لمكافأة روسيّا على سماحها بشنّ العدوان على عفرين، بادّعائها أنّها استأصلت القاعدة في إدلب، ومن ثمّ تجهيزها لتسليمها للنظام، هذا من جانب، من جانب آخر، تحاول تركيّا من خلال هذا الاقتتال فرض سيطرتها المطلقة على إدلب وريفها من قبل مرتزقتها الموالين لها أمثال حركة نور الدين الزنكي وأحرار الشام اللتان تحالفتا ضمن ما يسمّى “جبهة تحرير سوريّا”، وهما تابعتان لحركة الإخوان المسلمين والتي هي رأس الحربة في العدوان على عفرين. كلّ هذه المحاولات البائسة من طرف تركيّا، هي لتطويق عفرين من كافة الجهات، ومواصلة شنّها عدوانها عليها، لفتح ممرّ لمرتزقتها من مناطق الشهباء المحتلّة من قبلها ووصلها مع إدلب.
أزمة داخليّة في طور التفاقم
تركيّا لم توفّر أيّ وسيلة إلا واستخدمتها في سبيل احتلال عفرين، ولكنها فشلت في جميعها، إلا قتل المدنيين العزّل وتدمير الطبيعة، الاستخدام المكثّف للطيران خلال الاسبوعين الأخيرين، إشارة إلى اندحار عدوانها، والأرقام التي اعترفت بها وسائل الإعلام التركيّة حول عدد قتلاهم في عفرين، ومن بينهم ضبّاط رفيعي المستوى، يكشف حجم التورّط التركيّ أيضاً وحالة الغليان التي يشهدها الشارع التركي وبوادر التباين في الرؤى والمواقف بين الأحزاب والحركات السياسيّة حتّى تلك الموالية لـ”أردوغان ودولت باخجلي”، والتي ستتطوّر إلى أزمة متفاقمة، ستدكّ كرسيّ أردوغان وكلّ من له ضلع في العدوان على عفرين.
استحالة تحريك طائرة من مطاراتها دون موافقة غربيّة
الضغوط الخجولة من جانب الدول الغربيّة وخاصّة أمريكا، لم تصل إلى الآن إلى مستوى التنديد بالعدوان الفاضح على عفرين. الدعوة الأمريكيّة – الفرنسيّة بضرورة التزام تركيّا بقرار وقف إطلاق النار، لم تكن جادّة، بل هي لدغدغة مشاعر أردوغان، ولكن بدأنا نلمس “تحرّكاً ودبلوماسيّة أمريكيّة خفيّة” من خلال عدّة تصريحات صدرت عن البنتاغون ومسؤولين أمريكيين آخرين، بضرورة خفض التصعيد في عفرين، كما أنّ التسريبات التي تحدّثت عن نيّة أمريكا وحلف الناتو نقل قاعدة إنجرليك إلى باشور كردستان أو إلى أحد قواعدها في روج آفا وشمال سوريّا؛ تؤكّد أنّ العلاقات بين أمريكا وتركيّا دخلت منعطفاً خطيراً قد يودي بها إلى حالة طلاق بائنة، وتعود إلى أسباب جيوسياسيّة عميقة، بعد أن تحوّلت تركيّا وعلى يد أردوغان إلى دولة تعادي المصالح الأمريكيّة في المنطقة. والادّعاءات التركيّة بتغيير ترسانتها العسكريّة “الغربيّة” ونظامها التسليحيّ، بنظام روسيّ، باطلة ولا أساس لها من الصحّة، فلا يمكن لتركيّا القيام بهذه الخطوة، وأردوغان بالذّات لا يتجرّأ على أخذ هكذا قرار، فهي أولاً ستكلّف الميزانية التركيّة أموالاً باهظة غير قادرة على تسديدها، وثانياً أنّ كافة الأنظمة العسكريّة مرتبطة بالدول الغربيّة، فلا يمكنها أن تحرّك طائرة من مطاراتها دون الحصول على أنظمة فكّ التشفير من الدول الغربيّة وخاصّة أمريكا، أي أنّ انتقال تركيّا إلى الحضن الرّوسيّ عمليّة مستحيلة في الوقت الراهن، وحالة زواج المتعة بينهما ستنتهي فور اندحار العدوان على عفرين، ونعتقد أنّها باتت قريبة جدّاً في ظلّ المقاومة التاريخيّة التي يبديها أهل عفرين ومقاتلوها.