عفرين والتغيير الديموغرافي
لعلَّ أقذرَ ما تُنتجه الصراعات والحروب ضمن مَخرجاتها المؤلمة إضافةً للقتل والتدمير وسفك الدماء، هي عمليات التهجير القسري والتغير الديموغرافي بُغية خلق بنية اجتماعية مُغايرة للبنية الأصلية، وخلق نمطٍ اجتماعي ذو صبغة واحدة وفق تجليات المَكَنَة العسكرية وأجندات القوى المتصارعة.
وما يجري في مدينة عفرين السورية يُعتبر من أكثر الأمثلة وضوحاً في هذا السياق وأمام مَسمع ومرأى العالم أجمع.
حيث أفرزت عملية اجتياح عفرين واحتلالها من قبل حكومة العدالة والتنمية منهجاً جديداً يُضاف إلى معاناة السوريين من خلال عملية توطين قسري لمكوناتٍ سوريَّة تمَّ نقلهم من أماكن مختلفة ضمن صفقات سياسية يشوبها الكثير من التساؤلات والاستنتاجات ليكونوا في بقعة جغرافية تحمل طابعاً عِرقياً مُغايراً وهذا ما يُعرف بالتغيير الديموغرافي.
إنَّ ما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدولية فإنَّ “إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان متى ما ارتُكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجَّه ضدَّ أيَّ مجموعة من السكان المدنيين يُشكّل جريمةً ضد الإنسانية”، لذلك حتى المواثيق الدولية تَعتبر هذا التصرُّف اللاإنساني هو بمثابة جريمة إنسانية.
ما الهدف من عمليات التغير الديموغرافي التي تسعى إليه أنقرة جرّاء هذه الأعمال الوحشية؟
يُمكن تصنيف الاستراتيجية التركية من خلال عمليات التهجير القسري والتغيير الديموغرافي على النحو التالي:
أولاً: التدمير المُمنهج للمناطق المحتلة بما يجعل الحياة الإنسانية فيها مستحيلةً، كما يجعل إعادة بنائها صعبة جداً في ظل الظروف الراهنة، وبالتالي عدم تفكير السكان الأصليين بالعودة اليها وإن انتهت الحرب الطاحنة وتوقفت عجلتها القاتلة في سوريا.
ثانيا: تفكيك المجتمعات المحلية وعدم قدرتها على الصمود والبقاء، وعدم السماح بالعودة لأهالي تلك المناطق بحسب مُكوّناتهم.
ثالثاً: إطالة أمد الحرب في سوريا وتعقيد الحل السياسي، الأمر الذي من شأنهِ أن يدفع المُهجَّرين إلى الاستقرار في أماكن تواجدهم وأن تُصبح آمالُ عودتهم ضئيلةً جداً أو مستحيلة.
رابعاً: الاستيلاء على المُمتلكات وخاصَّة الأصول التي يمتلكها الكُرد كما يحدث في عفرين من خلال شراء العقارات عن طريق شبكة سَماسرة يخضعون للاستخبارات التركية.
وكل ما تقوم به تركيا هو بغرض إقامة امبراطوريَّة دينيَّة تستند على السياسَة الميكافيلية التي عرضها ميكافيل في كتابه الأمير “ومن يُصبح حاكماً لمدينةٍ حرَّة ولا يُدمرها فَليتوقّع أن تقضي هي عليه، لأنها سَتجد الدافع دائماً للتمرد باسم الحرية وباسم أحوالها القديمة، فالناس لا تتخلى عن ذكريات حرّيتها القديمة بسهولة، لذلك فإنّ الطريقة الأكيدة أن تُخرّبها أو أن تُقيم فيها”.
فَتركيا تَعبث بفُسيفساء النسيج الاجتماعي في سوريا وتُحاول جاهدةً من خلال عملياتها العسكرية على طول الحدود الشمالية لسوريا أن تُبعدَ الكُرد عن حدودها خِشـــيَةً من امتداد تأثير مشروع يُهدّد الأمن القومي التركي برُمَّته، لكنَّ التاريخ بَرهَنَ أن عمليات التغير الديموغرافي لا تَطمِسُ هُويَّة وحضارةَ شعوبٍ عمرها آلاف السنين.
ولعلَّ من تلك الأمثلة ما قامت بها روسيا بحقّ الشّركس في القوقاز وتلك التي قام بها ستالين ضد التّـتار والشيشان والأنغوش.
في النهاية يجبُ التنويه لخطورة عمليات التغيير الديموغرافي الذي ترسمهُ تركيا وتُحاولُ فرضهُ على الواقع السوري لِما لهُ من تَبِعاتٍ مستقبليةٍ خطيرةٍ جداً تَخلقُ حالةً من العِدائية والفوضى والحقد والكراهية حتى وبعد انتهاء الحرب السورية، وتُؤسّس لِحالةٍ من الإنقسام داخل المجتمع السوري وإحداثِ شرخٍ عميقٍ في بُنية وتركيبة المناطق المحتلة من قِبلِ تركيا.
فَخطورة التّغيير الديموغرافي أشدَّ فَتــكَاً من كل القذائف التي سقطت على سوريا طيلَةَ سنين الحرب لِما تعكسُهُ من حالة تعصُّبٍ وتَمَذهُبٍ وضربٍ للتَّعايُش السلمي واللُّحمة الوطنية.
حســـين عثمــــان