19 تمّوز والطريق الثالث
محسن عوض الله
يعتبر الاستبداد والحكم السلطويّ معلماً رئيسيّاً من معالم الشرق الأوسط، وصِفة رئيسيّة من صفات الأنظمة الحاكمة بالمنطقة سواء كانت تلك الأنظمة ذات خلفيّة عسكريّة أو مرجعيّة دينيّة.
وبمرور الزمن تعايشت الشعوب مع الاستبداد، واعتبرته جزءاً لا يجوز الخروج عنه حتّى مع حدوث تغيير في بعض الأنظمة، وكان التغيير يقتصر على شكل النظام فقط مع الحفاظ على طبيعته المستبدّة.
وفى ظلّ هذه الأجواء، اقتصرت المعارضة على الحركات والجماعات ذات التوجّه الدينيّ والتي عبّرت عنه جماعة الإخوان المسلمين ذات الفروع المنتشرة بعدد كبير من دول الشرق الأوسط.
بعد ثورات ما يُعرف بـ”الربيع العربيّ” التي هزّت عروش أنظمة الاستبداد، سعت القوى الإسلاميّة لتصدّر المشهد، ونجحت بالفعل في الوصول لقصور الحكم وقيادات الحكومات في بعض الدول، ولم تقدّم هذه المعارضة ما يلبّي طموح الشعوب الثائرة ضدّ الاستبداد، بل ربّما سعت لتكرار التجربة ولكن بلباس شرعيّ دينيّ، وتكرّرت معاناة الشعوب التي لم تلبس إن استبدلت جحيم الاستبداد العسكري، بنيران الاستبداد الدينيّ، وكأنّ قدر الشرق الأوسط أن يعيش بين هذه الثنائيّة المدمّرة.
في سوريّا، التي تحوّل الربيع العربيّ فيها إلى شتاء قارس، وصيف حارق، قُضِيَ على الأخضر واليابس، في سوريّا التي تحوّلت ثورتها لحرب أهليّة واقتتال شعبيّ، وأصبحت أراضيها مرتعاً لكلّ أجهزة المخابرات، وقُسّمت ثوراتها بين الدول الكبرى وأصحاب النفوذ، رغم كلّ الألم المنبعث في سوريّا، ولِد الأمل في تغيير الشرق الأوسط من أرضها الطيّبة، ففي سوريّا خرجت نبتة صالحة من قلب النيران الحارقة، وولِدت بذرة أمل وسط براكين الألم، من قلب الظلام ظهر شعاع النور، وصنعت دماء الشهداء مشروع كرامة الأحياء.
في التاسع عشر من تمّوز 2012 أعلن الكرد بشمال سوريّا ثورتهم ضدّ النظام من السّوريّ ووقعت صدامات شديدة بين الطرفين، أسفرت عن خروج النظام من كوباني وتحرير المدينة من النظام لأوّل مرّة.
انتقلت شرارة الثورة من كوباني إلى عفرين ومن ثمّ إلى قامشلو، حتّى تحرّرت المناطق الكرديّة، وتشكّلت وحدات حماية الشعب والإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة في تجربة جديدة على الشرق الأوسط.
دشّنت ثورة 19 تمّوز مرحلة جديدة ومختلفة في الصراع السّوريّ بعد أن عبّدت وصنعت طريقاً ثالثاً لا يعادي النظام ولا يواليه، يختلف مع المعارضة ولا يجرّمها، استطاعت الثورة أن تُسقط النظام بمناطق الشّمال، وأدارت مناطقها المحرّرة وصنعت مؤسّساتها الشعبيّة وإداراتها الذاتيّة.
نجح الكرد في تحقيق ما فشلت فيه قوى المعارضة مجتمعة، واستطاعت الثورة الكرديّة تجاوز معضلة إسقاط النظام بعد أن سلبته كلّ سلطاته وطردته من مناطقها المحرّرة، كما حقّقت أهداف انتفاضة 2011 من خلال صناعة نظام حكم تشاركيّ لا يفرّق بين عربيّ أو كرديّ أو تركمانيّ، مسلم أو مسيحيّ، أو إيزيديّ أو غيره من القوميّات والمكوّنات السّوريّة.
فرضت ثورة روج آفا نفسها على السّاحة الدّوليّة، وأصبحت رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن أيّ حلّ سياسيّ للأزمة السّوريّة، عكس المعارضة التي فشلت في تحقيق أيّ انجاز، وسلّمت مقاليد أمورها لأعداء الشعب السّوريّ، حتّى وصل بها الأمر للمشاركة ضمن قوّات أجنبيّة في احتلال أرض سوريّة.
أهمّ إنجازات الثورة الكرديّة؛ أنّها قضت على ثنائيّة (العسكر والإسلاميين) بالشرق الأوسط بعد أن قدّمت نفسها كطريق ثالث، وخيار بديل قابل للتجربة لمن أتعبه عصر الليمون عند الاختيار بين طرفين كلاهما سيء.
كما مثّلت طوق نجاة لعشّاق الحرّيّة في الشرق الأوسط بإمكانيّة التغيير والتعايش وقبول الآخر، عظّمت ثورة تمّوز قيمة الإنسان فظهرت ينابيع الإنسانيّة والكرامة لتتجاوز عقد العنصريّة والقوميّة البغيضة.
أعتقد أنّ الكرد بشمال سوريّا مطالبين بمزيد من العمل والجدّيّة لتقديم نموذج أكثر إيجابيّة لنظام الإدارة الذاتيّة والحكم التشاركيّ والفيدراليّ، بما يجعل من روج آفا نقطة ضوء تسري إشعاعاتها بالشرق الأوسط، ويسعى الجميع لتكرار تجربتها واستنساخ ثورتها، ليستعيد الشرق مكانته كمركز إشعاع للنور حول العالم كما كان في سالف عهوده.