دين الدولة

محسن عوض الله

بعد ثورات ما اصْطلِح على تسميتها بالربيع العربيّ، وظهور تيّارات الإسلام السياسيّ في الشرق الأوسط، شهدت بعض دول الربيع دساتير جديدةً يُفترض أنّها تتوافق مع عهود ما بعد الثورات.

لفت انتباهي في ذلك الوقت إصرار بعض القوى السياسيّة في دول الربيع على ضرورة تضمين دين الدولة “الإسلام” في الدستور، واعتباره المصدر الأوّل للتشريع أو أحد المصادر في أسوء الأحوال.

في وطني مصر، لا أنكر أنّني كنت في ذلك الوقت مؤيّداً جدّاً لتلك الفكرة، وأراها ضروريّةً بما يتناسب مع التّاريخ الإسلاميّ لمصر وطبيعة شعبها “المتديّن”. لكنّ الغريب أنّ المادّة التي كانت مثار جدلٍ وقت إعداد دستور الثورة كانت موجودة في دستور نظام ما قبل الثورة، بل إنّها لم تَغِبْ عن أيّ دستورٍ مصريّ منذ نشأة الجمهوريّة دون أن يكون لذلك أيّ تأثيرٍ إيجابيّ ملموسٍ على حياة المصريّين.

تطوّرات الأوضاع خلال السنوات الماضية، وأحداث الفتن الدينيّة والمذهبيّة والقوميّة التي شهدتها بلدان الربيع، والصراع ما بين القوى السياسيّة بتوجّهاتها المختلفة، وأيديولوجيّاتها المتباينة، وظهور الدّين كلاعبٍ أساسيّ في الصّراع السياسيّ، واستخدامه كورقةٍ انتخابيّةٍ من جانب بعض القوى السياسيّة في دول المنطقة جعلتني أعيد التفكير فيما كنت أعتقد أنّه مُسلّمات وثوابت.

 تغيّرت الكثير من المفاهيم والمُعتقدات في عقلي الباطن بصورةٍ جعلتني أتساءل اليوم “هل للدولة دين”؟ ما المقصود بأنّ الإسلام دين الدولة؟ ما هي الدولة أصلاً؟ هل هناك فرقٌ بين الدولة والنظام؟ هل استفاد المصريّون أو غيرهم من دول الشرق الأوسط من تضمين هذه المادّة في دساتيرهم؟ كيف لدولةٍ يقطنها ملايين المسيحيّين أن يكون دينها الرسميّ الإسلام؟ ألا يُعتبر ذلك انتهاكاً لحقوق هؤلاء المواطنين؟ ما الموقف من الملحدين الجدد، تلك الظاهرة التي تفشّت في دول الربيع العربيّ؟ الغريب أنّ مُسْلمي بعض الدّول التي أقرّت الإسلام كمرجعيّةٍ، ومصدراً أوّليّاً للتشريع مازالوا يشعرون بالتمييز السلبيّ من قبل الدولة، ويتّهمون أجهزتها بمحاباة الكنيسة وشعبها، وهو نفس الشعور لدى أتباع الكنيسة الذين تملؤهم مشاعر القهر والشعور بالاضطهاد في وطنهم! إذاً فشلت الدولة، ولا أقصد بها هنا دولةً معيّنة، بل نُظم الحكم في الشرق الأوسط التي نشأت عقِبَ سايكس بيكو في التوفيق بين أبنائها، ونشر العدالة بين مواطنيها.

 في الشرق الأوسط الجميع يشعر أنّه مضّطهدٌ مقهور، الكلّ مظلوم، ولا أحد ظالم، أعينٌ جاحظة وغضبٌ مكتومٌ في الصدور ينتظر فرصةً للتنفيس والخروج، حالة ترقّبٍ وتربّصٍ من الجميع ضدّ الجميع وهو أمرٌ لو تعلمون جدّ خطير. مشهدٌ مؤلم، مؤمنون مسلمون أو هكذا يُصَنِّفون أنفسهم، فقراء جهلة تناسوا كلّ مشاكلهم، وهاجموا جيرانهم وإخوانهم المسيحيّين دفاعاً عن الإسلام الذي يرونه مُسْتهدفاً من أناسٍ يعبدون الله داخل بيتٍ أو كنيسة!  ما الضرر الذي يصيب المسلمين من إقامة صلوات كنسيةٍ في منازل المسيحيّين؟، لماذا لا يتمّ السماح بإنشاء كنيسةٍ في كلّ مدينةٍ أو قريةٍ أو تجمّعٍ سكنيّ للمسيحيّين؟، من المسؤول عن هذه الحالة؟، من جعل من عبادة الله أمراً يستوجب الإذن؟، من الذي ورّط الدولة في هذا المستنقع؟، من جعل للدولة ديناً يستوجب الدفاع عنه؟، ومن جعل الإله بحاجةٍ لمن يحمي دينه؟!  

اعتقد أنّنا بحاجةٍ لإعادة تعريف الدولة، وتحديد العلاقة ما بين الأنظمة وشعوبها بصورةٍ تعود معها “الدولة ” ككيانٍ ليس له دين ولا ملّة ولا مذهباً أو انتماء.  يجب أن تتمتّع الدولة بصفات المياه بصورةٍ تجعلها بلا لون أو طعم أو رائحة، ليس لها مهمّةٌ سوى إعادة الحقوق، وضبط نسق الحياة وفق ميزان القانون الذي يجب أن يقف الجميع أمامه عُراةً كما ولدتهم أمّهاتهم متجرّدين من كلّ شيءٍ إلّا من جنسيّاتهم. أمام القانون، يجب أن يسقط الدّين والمذهب والقوميّة، ويقف المواطن ليس معه سوى بطاقة إثبات انتماءه لهذا الوطن فقط، فيكفي أن تكون مصريّاً أو سوريّاً أو عراقيّاً للتمتّع بخيرات دولتك. ليس مهمّاً أن تكون مصريّاً مسلماً أو سوريّاً علويّاً، أو عراقيّاً شيعيّاً، لا يهمّ دينك أو فكرك، المهمّ وطنيّتك وولاؤك لبلدك.

 لن يهدأ الشرق الأوسط، ولن يعود إليه الاستقرار دون الخروج من دائرة تسييس الدّين، وجعله مطيّة تستغلّه الجماعات تارّةً وأنظمة الحكم تارةً أخرى.

ارفعوا أيديَكم عن الأديان، فالله ليس بحاجةٍ لعبادتكم ولا دساتيركم.