الكرد وثورة أم كلثوم

محسن عوض الله

يمثل الصراع بين الحق والباطل جزء من الإرث الإنساني والبشري، فلا تكتمل الحياة دون فريقين، كلاهما يدعي الحق، ويدافع عما يعتقده، ويجاهد في سبيله.

وفى المعارك ذات البعد الفكري، تعتبر المواجهة العسكرية هي أسوء الأسلحة استخداما نظراً لقلة فعاليتها في تلك المواجهة التي يعتبر فيها المقتول منتصراً.

وتمثل الكتابة أحد أهم أسلحة تلك المعركة، التي ينتصر فيها، من يجيد التعبير عن فكرته، وعرض قضيته، حتى لو كان ذلك على حساب روحه وحريته.

كما إن الكتابة جزء من وسائل نشر الفكر، والدفاع عنه، فالأفكار العظيمة ما كان لها أن تبقى لولا أنها وجدت مساحة في كتاب، تداولته الأياد، وتوارثته الأجيال، ونقل عنه المؤرخون، ما منحها الفرصة لتبقي، وتنتشر، وتصل لأكبر شريحة من البشر.

وتمثل القضية الكردية أحد أهم قضايا الصراع بالشرق الأوسط، صراع ما بين حق الكرد فى دولة وحياة كريمة تحترم خصوصياتهم وثقافتهم، وحق الدول المحتلة لكردستان في حماية أمنها والحفاظ على حدودها، هو صراع بين طرفين كلاهما يدعي الحق، ويقاتل فى سبيل نصرته، ويقدم الضحايا والمصابين من أجله.

نجح الكرد بنسبة ما في الجزء العسكري وهو الأقل فعالية فى المعركة، ولكنهم وللأسف فشلوا فشلاً ذريعاً فى استخدام السلاح الأكثر فتكاً وفعالية ألا وهو سلاح القلم.

ورغم امتلاك “الكرد” لمفكر بحجم وقامة “عبد الله أوجلان” المعتقل بالسجون التركية منذ قرابة عشرون عاماً، ورغم كتابات أوجلان الفلسفية، وغزارة إنتاجه الفكري، ألا أن “الكرد” فشلوا فى تسويق ذلك السلاح العابر للقارات والأجيال بصورة تجعل من قضيتهم ومناضلهم وجبلهم الأشم أوجلان حديث الحجر والبشر.

نجح أوجلان فى التعبير عن القضية الكردية، ووضعها فى سياق أزمات الشرق الأوسط الكثيرة، بل وأوجد لتلك الأزمات التي صنعها العالم وفشل في حلها، حلولاً نموذجية أخلاقية تخدم شعوب الشرق والغرب قاطبة.

استطاع “أوجلان” وهو الأسير منذ عقدين أن يجعل من صرير قلمه مصباحاً يضيء به ظلمات سجنه، ونجح ذلك القلم المضيء أن ينتج كلمات لها من القوة والتأثير ما جعلها مصدر إشعاع وطاقة نور حررت ذلك الأسير، وجعلته رمزاً للحرية والأحرار بشتى أنحاء العالم، حتى لو بقي صاحب القلم عاجزاً عن الحركة، مسلوب الإرادة، بين يدي سجانه.

ذلك النور، وتلك الطاقة التي أنتجها “أوجلان” من خلف الأسوار، ربما بحاجة لشيء من الاهتمام والعناية، بصورة تجعلها أكثر قوة وفعالية وتوائماً مع متغيرات العصر، وتطبيقات التكنولوجيا بما يخدم القضية الكردية التي كتب لها أوجلان، وضحى من أجلها بسنوات عمره خلف القضبان.

يتمتع “أوجلان” بعمق فلسفي وتاريخي، يجعل من كلماته، أشبه بالمصطلحات الدوائية، التي لا يستطيع فك طلاسمها سوى الأطباء، يكتب “أوجلان” من خلف قضبانه بلغة علمية متخصصة تجعل من الصعب على الكثيرين فهم استنتاجاته ومدلولاته، وهو ما يجعل من كتبه وموسوعته القيمة جداً، من وجهة نظري صعبة الفهم لدى طبقة غير قليلة من المثقفين فما بالنا بعموم القراء؟.

ربما تحتاج كتب “أوجلان” لشروحات جديدة وتفسيرات تتلاءم مع العصر الحديث، ولغته السريعة، فى ظل جيل لا يقرأ من الصحف سوى “المانشيتات”، ومن الكتب سوى الروايات.

يستحق “أوجلان” من الكرد أن يشكلوا لجنة علمية تؤسس لجائزة باسمه لمن يقدم شروح مبسطة، وتفسيرات جديدة، وطرق عرض مختلفة وحديثة، لموسوعة الحضارة الديمقراطية التي اعتبرها كنزاً من كنور البشرية يجب المحافظة عليه وتطويرها لتتوائم مع كل عصر.

أعتقد إن إعادة النظر فى طريقة التعامل مع الإنتاج الفكري “لأوجلان” أصبح أمراً حتمياً، فما قيمة مجلد فاخر الطباعة، رائع الشكل والإخراج، ولكنه لا يجد من يقرأه!

 ربما يكون من الأفضل أن يتم التعامل مع كتابات “أوجلان” وطبعها فى شكل مطويات، أو كتيبات للجيب، بحيث يتم تجميع أراء “أوجلان” فى قضية ما ولتكن المرأة مثلاً ووضعها فى كتيب صغير لا يزيد عن 30 صفحة، وهو ما قد يزيد من انتشار فكر “أوجلان” وكسب قطاع جديد من القراء لكتاباته وآراءه.

كما يمكن إطلاق تطبيق إلكتروني على الهاتف المحمول لكلمات “أوجلان”، ورؤيته للقضية الكردية، وقضايا الصراع بالشرق الأوسط، بصورة تجعل من المفكر الأسير قضية عالمية يتداولها المثقفين حول العالم عبر هواتفهم المحمولة.

يستحق منكم “أوجلان” أن تقدموه للعالم بشكل مختلف، بعيداً عن النمطية والتقليدية التي مازالت العقول تتعامل بها مع قضيته حتى الأن، حدثوا العالم عن “أوجلان”، بفكر “أوجلان” وليس لغته، اعرضوا الفكر بلغة العصر، لا أحد يقرأ فى عالم “السوشيال ميديا”، العالم يتحدث بالصور والفيديوهات وليس بالمجلدات والمراجع.

السعودية الوهابية أحّيت “أم كلثوم” المصرية بعد نصف قرن من وفاتها لتحيي حفلاً بأراضيها العام القادم عبر خاصية “الهليوجرام”، و”أوجلان” المفكر الأسير يريد بعض الكرد دفنه حياً بتلك الطريقة القديمة التي يتبعونها فى عرض أفكاره.

نجح “أوجلان” وهو القائد الأسير فى أداء دوره على أكمل وجه، وفشل الكرد وهم الأحرار، أو كما يبدو ذلك فى الترويج لحلول القائد ولكلماته ومصطلحاته، العابرة للحضارات الجامعة للمعاني.

ختاماً ..

ربما تكون بكلماتي بعض القسوة، ولكنها قسوة المحب، وغيرة الثائر، وغضبة المثقف..

من حقكم أن تلوموني، ولكن من حقي، ومن حق الأجيال الجديدة، أن تستمتع بالقراءة لهذا الفيلسوف العاشق.. قدموا لنا “أوجلان” كما نريد لا كما تريدون ….