الكائن المغترب بين رغبة العودة ومستقبل الأبناء؟!

بير رستم (أحمد مصطفى)

بالنسبة لقضية الهجرة والإغتراب فإنني أحد الذين كتبوا ولأكثر من مرة عن هذه الظاهرة وأحياناً كنت قاسياً على كل من هاجر البلد، رغم إنني أحدهم ولم استثني نفسي أيضاً، وذلك على الرغم من إدراكي التام بأن هناك البعض الذين أجبرتهم ظروف الحرب والأمان والمعيشة على الهجرة، لكن وللأسف فإن الأغلبية المطلقة للذين هاجروا من السوريين وعلى الأخص من أبناء شعبنا الكردي في مناطق الإدارة الذاتية فهم هاجروا لأسباب وأوهام شخصية وتحت فكرة خاطئة بأن “أوربا هي جنات النعيم التي تجري من تحتها الأنهار”، لكن الأغلبية وبعد سنوات من الغربة تفاجأ بأنه قد خدع أو أنخدع بفكرة الحلم الأوربي الكاذب، لكن بعد فوات الأوان وبعد أن صار فيه كما صار بتجربة “طارق بن زياد” في (فتح الأندلس) حيث أحرق كل مراكب العودة وللأسف وهكذا بات بين نارين؛ نار الغربة ومستقبل الأولاد ونار حرقة العودة للوطن!

طبعاً ذاك لا ينفي بأن البعض تأقلم مع الظروف والواقع الأوربي الجديد حيث هناك من لا يهمه هذه القضايا فهو على مبدأ “المكان الذي ترزق فيه إلزق فيه” وهؤلاء بدورهم ينقسمون لقسمين؛ قسم إنتهازي مرتزق يجد في “الجوب سنتر” فرصة للكسل والاتكال والإرتزاق، بل البعض يجده شطارة وبأنه يضحك على الأوربيين بحيث يأخذ من الضمان الاجتماعي وبنفس الوقت يعمل سراً -العمل الأسود- ليوفر بعض النقود ويؤسس بها مشاريع هنا أو في البلد، بينما هناك البعض وخاصةً أولئك الإخوة والأبناء الذين كانوا يسكتون خارج المناطق الكردية مثل حلب ودمشق وأجبرتهم ظروف الحرب بأن يتركوا كل شيء خلفهم وليس لهم أي مورد أو أملاك في المنطقة، مما أجبروا على مغادرة البلد واللجوء لبلدان الشتات وأوربا، كما البعض أحرق سفنه نتيجة الخلافات السياسية مع الإدارة الذاتية وللأسف حيث الخلافات الحزبية جعلت البعض يصور مناطق الإدارة الذاتية جحيماً وكأن دول الجوار؛ تركيا أو الإقليم الكردستاني أو حتى أوربا نعيماً ولذلك فإن الكثيرين من هؤلاء الحزبيين أحرقوا مراكبهم وهم مجبرين على البقاء في البلدان الجديدة إلى أن تجد الأطراف الكردية حلولاً مقبولة لمشاكلها وخلافاتها المستعصية!

وهكذا فإنني لم أبرر للذين خرجوا رغم معرفتي بأن البعض كانوا مجبرين فعلاً ولأسباب مختلفة لكن الأغلبية لم يكن من مبرر لخروجهم والذين بقوا بالداخل هم كسبوا الحياة الكريمة وكذلك ربما مستقبل أفضل لأبنائهم، كون أغلب الأبناء في الخارج لن يحصلوا على التعليم المناسب وخاصةً من كان أبنائه في المتوسط وما فوق والجميع أدرك هذه الحقيقة مؤخراً، لكن رغم ذلك لا يقدرون أن يعودوا وذلك لسبب جد معقد وهو أن هؤلاء الأبناء خرجوا من البلد -سوريا- وبالتالي حرموا من إكمال دراستهم هناك وها هم في البلد الجديد بدؤوا بوضع الخطوات الأولى ولو في كسب مهنة ما وليست دراسات تعليمية عالية والتي قد ينجح البعض بالحصول عليها بعد جهد كبير، لكن الجميع يدرك بأن سقف طموحه في البلد الجديد سيكون نيل شهادة في مهنة ما ومع ذلك لا يقدر أن يعود حيث يعلم بأن في عودته ضياع كل شيء فبعد أربع أو خمس سنوات لن يكون بمقدوره العودة للدراسة في سوريا وهكذا فإن المغترب يجبر أن يكمل درب الآلام والمعاناة وهو يدرك تماماً بأنه خسر الكثير؛ خسر حياته في الوطن وخسر الأبناء ومستقبلهم الدراسي، لكن وللأسف لا حلول أفضل من الواقع المأساوي والكارثي!!

ولذلك فإننا نقول لذاك الذي يكتب عن مسألة الغربة والمهجرين؛ بأن ” أمركم عجيب.. باب العودة مفتوح”، هل تعتقد من السهولة أن تعود وأنت مرتبط بالعائلة ومصير الأولاد الذين أرتبطوا بالحياة الجديدة .. فعلاً أستغرب هذا الحكم القاسي والجميع يعلم بأن أغلب الآباء يريدون العودة اليوم قبل الغد، لكن مصير أبنائهم يشكل عائقاً فإما ترك العائلة أو القضاء على مستقبلهم، كونهم حرموا من المتابعة في البلد وسيحرمون من المتابعة في البلد الجديد.. فإرحموا العالم وإرحموا مشاعر من يحترق بين مستقبل الأبناء ونار الغربة يا ناس!! وأخيراً أودّ أن أقول؛ والله لو قبل الأولاد بترك الدراسة في أوربا والعودة إلى البلد سأكون أكثر سعادةً من البقاء في الغربة، لكن لا أريد أن تكون سعادتي على حساب مستقبلهم الدراسي مع العلم وبقناعتي الشخصية؛ فإنه ومع قليل من التعب سيكون مستقبلهم أفضل في البلد، لكن ولكون دخولهم في الواقع الدراسي الجديد فهم لا يريدون تخريب كل شيء والبدء من جديد مرة أخرى وللأسف ومع ذلك هي أمنيتي أن تعود عائلتي إلى الوطن حتى ولو ضاع مستقبلهم الدراسي حيث وبكل الأحوال سيكون أفضل من ضياع جيل كامل من شعبنا وربما إلى الأبد!!