مُخيَّم “تل السَّمن”.. لكُلِّ نازحٍ إليه قِصَّةٌ

يقع مُخيَّم “تل السَّمن” شمال مدينة الرِّقَّة، ويبعد عنها مسافة /25/ كم تقريباً، ويَضُمُّ المهجَّرين قسريّاً من مدينة كري سبي/ تل أبيض ومن قرى الرّيف الشّمالي والغربيّ لبلدة “عين عيسى”.

عاش المهجَّرون قسريّاً حالات نزوح عديدة، ولكن أقساها وأطولها، كان النّزوح الأخير إثر احتلال مناطقهم من قبل دولة الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته في أكتوبر/ تشرين الأوَّل عام 2019.

يدفع الحنين إلى موطنهم العديد من النّازحين/ المُهجَّرين قسريّاً، إلى تذكُّر الأيّام التي قضوها في قراهم ومنازلهم، خاصَّةً في ظِلِّ الإدارة الذّاتيَّة الدّيمقراطيَّة في شمال وشرق سوريّا وبحماية قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، فيما يحدوهم الأمل بالعودة إلى منازلهم خلال أمد قريب، ولم يفقد أيّاً منهم الأمل في ذلك، حتّى الأطفال الصغار أيضاً.

وفي لقاء لنا مع عدد من النّازحين القاطنين في المُخيَّم، عبّروا لنا عن أحوالهم وما يدور في خلدهم من أماني في العودة إلى منازلهم، فدخلنا خيمة الرَّجل المُسِنِّ “عيسى شحاذة العمر”، الذي قال: “من وجهة نظري، لم يبقَ إنسان في سوريّا وخارجها لم يتضرَّر من تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وهو خُلِقَ لتدمير البشريَّة، ولتدمير الدّين”، وحول تعامل المجاميع الإرهابيّة مع المدنيّين، أوضح “العمر”: “في فترة سيطرة “جبهة النصرة”، طلبني أحد أمرائها وكان يُدعى “فيصل البلّو” الملقَّب بـ”أبي أحمد”، وحاولت ألا أذهب إليه، إلا أنَّ اخوتي نصحوني بالذّهاب إليه، وألا نجلب البلاء لأنفسنا”، وتابع “العمر” قوله: “بعد حضوري إلى المدعو “أبو أحمد” اتّهمني بأنَّني أدعو إلى إنشاء ونشر تنظيم “شيعيّ”، وأصرَّ أن يعتقلني ويأخذني إلى “الهوته”، وهي بئر عميقة لا قاع لها كانت التَّنظيمات الإرهابيّة ترمي فيها ضحاياها، دون أن يتمكَّن أحد من استخراجهم منها”، ولكن لم يكن لدى المدعو “أبو أحمد” أيّ دليل أو إثبات عليَّ، فتركني وحال سبيلي”.

وحول عودة تنظيم “داعش” الإرهابيّ، قال المُسِنُّ “العمر”: “أتمنّى ألا يعود تنظيم “داعش” الإرهابيّ مَرَّةً أخرى، ولا أعتقد أنَّ لديه القدرة على العودة، والعديد من أعضاء “داعش” هربوا ودخلوا الأراضي التُّركيّة وهم يعيشون هناك أحرار طُلَقاء، ينظِّمون أنفسهم فيها، ويمكن أن تُعيدهم الدَّولة التُّركيّة في أيّ لحظة، كما أنَّ العديد منهم انخرطوا في صفوف ما يُسمّى “الجيش الوطنيّ السُّوريّ” أو “الجيش الحُرّ” الموجود بالمنطقة، وهم سابقاً كانوا جميعاً من عناصر التَّنظيم الإرهابيّ”. وحول علاقة تنظيم “داعش” الإرهابيّ بدولة الاحتلال التُّركيّ، أشار “العمر” بأنَّ “التَّحالف ما بين تنظيم “داعش” الإرهابيّ والدَّولة التُّركيّة واضح للعيان، ويعلم به القاصي والداني”. وعن قصف الاحتلال التُّركيّ واعتداءاته المتكرِّرة على مناطقهم، قال “العمر”: “إنَّ الغاية من القصف هي إعادة إحياء تنظيم “داعش” الإرهابيّ وتحريكه في المنطقة، والدَّليل على ذلك أنَّه كلما حصل قصف أو استهداف من قبل قوّات الاحتلال التُّركيّ، نرى أنَّ خلايا التَّنظيم الإرهابيّ تتحرَّك في المنطقة”.

وعن رأيه بقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، قال “عيسى شحاذة العمر”: “يقيناً إن قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة هي الوحيدة القادرة على تحقيق أمانينا وأحلامنا”.

فيما قال النّازح “مُحمَّد موسى العيسى”: “بدأت الأحداث في منطقتنا في عام 2011، وتعرَّضنا للكثير من الضغوطات من طرف ما كان يُسمّى “الجيش السُّوريّ الحُرّ”، وتبيَّن أنَّه لا يغدو أكثر من حالة عبثيَّة، ولم يكن له أيّ علاقة بالثَّورة وبتحقيق أهداف الشَّعب، حيث بدأ بعمليّات التَّخريب والتَّدمير للمدارس وللمنشآت العامَّة والخاصَّةِ، إضافة إلى امتهان أعضائه سرقة ممتلكات الشَّعب”.

وعن تنظيم “داعش” الإرهابيّ، قال: “كان تنظيم “داعش” الإرهابيّ أسوأ من “الجيش الحُرِّ” و”جبهة النُّصرة”، خاصَّةً أنَّ “داعش” أخفى نفسه تحت عباءة الدّين، والدّين منه براء، حيث حاول فرض تشريعاته وقوانينه المتخلّفة تحت اسم الدّين الإسلاميّ، وكأنَّ المنطقة لم تكن تعرف الدين قبله مطلقاً”. وعن تعامل التَّنظيم الإرهابيّ مع الأهالي، قال “العيسى”: “كنّا نقول لعناصر التَّنظيم الإرهابيّ، نحن مدنيّون، ما هو عملكم بيننا، اخرجوا من القرى، ولكنَّهم رفضوا طلبنا، بل عاملونا بمنتهى القسوة والوحشيَّة”.

وعن العيش في ظِلِّ سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابيّ، أوضح “بقينا في مدينة الرِّقَّة مُدَّةَ شهر أو شهر ونصف، ولكنَّنا لم نتحمَّل العيش في ظِلِ سيطرة التَّنظيم الإرهابيّ وممارساته الوحشيَّة بحَقِّ المدنيّين، وقرَّرنا الخروج من الرِّقَّة والعودة إلى مناطق سيطرة قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، فأقمنا فترة عامين تقريباً خارج بيوتنا، لأنَّها كانت مُهدَّمة بفعل المعارك التي جرت في المنطقة، حيث قريتنا “الصفّاويَّة” كانت في الخطِّ الأوَّل للجبهة وتمركزت فيها قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، والتي تقدَّمت باتجاه مدينة الرِّقَّة، وبفضلها تحرَّرت مناطقنا من التَّنظيم الإرهابيّ، وعُدنا مَرَّةً ثانية إلى قريتنا وأعدنا إعمار منازلنا، لكنَّ عدداً من المدنيّين راحوا ضحيَّة الألغام التي زرعها التَّنظيم الإرهابيّ في المنازل، ففي منزلي راح عدد من الضحايا بفعل انفجار تلك الألغام اللَّعينة”.

ووصف” العيسى” عناصر تنظيم “داعش” الإرهابيّ، بأنَّهم “أسوأ وأتعس البشر على سطح الكُرة الأرضيَّة، ولم يسبقهم إليه في جرائمهم لا التتار والمغول ولا حتّى العثمانيّين”.

وحول عدوان دولة الاحتلال التُّركيّ على مناطقهم، قال “العيسى”: “بعد أن أكملنا بناء منازلنا التي طالها الدَّمار والخراب، وعدنا إلى أعمالنا في الزِّراعة، واستتبَّ الأمن والاستقرار في المنطقة بعد تحرير كُلِّ المنطقة من رِجس التَّنظيم الإرهابيّ، بدأ “داعش” آخر هجومه على مناطقنا، هجوم “داعش” الأناضوليّين والعثمانيّين الجُدُد، وهاجموا مدينة كري سبي/ تل أبيض، وهدفهم الوصول إلى مدينة الرِّقَّة”.

وعن الهجوم الغاشم على مدينة تل أبيض وريفها، قال: “إنَّ عيون الأطفال كانت واجفة وخائفة أثناء سقوط قذائف الغدر التُّركيّة على منازلنا في القرية، بعضهم كان يبكي ويصرخ، الأطفال الصغار في العمر كانوا يتأمَّلون وجوه آبائهم وأمَّهاتهم ولا يعلمون ما الذي يجري حولهم وعليهم، حينها تُدرك مباشرة أنَّ في دواخل هؤلاء الأطفال شيء يودّون قوله، ولكنَّهم لا يستطيعون التَّعبير عنه، فكنّا جميعاً نعيش حالة رعب حقيقيّ، وأكثر ما كان يُشغِلُ بالنا هو ألا يُصابَ أطفالنا بأمراض نفسيَّة معقدة جرّاء ما يشاهدونه بأمّ أعينهم، تزامناً مع أصوات انفجار القذائف والصَّواريخ، إلا أنَّنا رغم ذلك كُنّا مقاومين واتّخذنا قراراً بألا نخرج من منازلنا، ومهما اشتدَّ العدوان علينا”.

وأضاف “العيسى”: “بعد مرور عام على احتلال مدينة تل أبيض، وفي صيف 202 بدأ الاحتلال التُّركيّ باستهداف قرانا مجدَّداً، من خلال القصف المدفعيّ المكثَّف، حيث بدأ بالقصف بعد الظهيرة واستمرَّ لمُدَّة أكثر من أربع ساعات، ولم يكن قصفاً طبيعيّاً أبداً، كيف كانت تسقط القذائف والصَّواريخ فوق المنازل، لا ندري، حيث فتحت كُلّ جبهات المرتزقة والاحتلال التُّركيّ النّارَ على قرانا، رغم علمهم أنَّ جميع من يقطن في القرية هم من المدنيّين، حيث لديهم كاميرات مراقبة يُصوِّرون كامل المنطقة، أي أنَّهم تعمدوا استهداف المدنيين”. وسرد طويلاً في وصف مشهد القصف الوحشيّ، قائلاً: “حقيقة لم نكن نعلم ماذا حصل لجيراننا، لأنَّ كُلّ واحد منّا كان مشغولاً بكيفيَّة حماية وإنقاذ أولاده وعائلته”.

وفي نهاية حديثه، قال النّازح “مُحمَّد موسى العيسى”: “أوجّه رسالتي إلى كُلِّ مواطن هُجِّرَ من بيته وقريته؛ هذا بلدنا ولن نتركه ونتخلّى عنه، نموت ونستشهد ونتشرَّد، ولكن سنبقى متمسّكين بأراضينا ولن نغادرها، ومهما حصل”.

فيما قال النّازح “أكرم مُحمَّد العلي”: “لقد تهجَّرنا عِدَّةَ مرّات، على يد ما يُسمّى “الجيش الحُرّ” و”جبهة النُّصرة” وكذلك على يد تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وكان آخرها على الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته في 9/11/2019، ومع العدوان التُّركيّ تبخَّرت كُلُّ أحلامنا في الاستقرار والأمن”.

وعن الفترة التي سبقت احتلال تركيّا ومرتزقتها لمناطقهم، قال “العلي”: “قبل وقوع الاحتلال كُنّا سعداء وفي رغد العيش، حيث كنّا نمارس زراعتنا وتجارتنا وصناعتنا بكُلِّ يُسرٍ، ولكنَّ التَّهجير القسريّ والنّزوح الأخير هو كان الأكثر ضرراً وتدميراً لحياتنا”.

وعن لحظة دخول جيش الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته قريتهم، قال: “استيقظنا في الصباح الباكر، ووجدنا آليّات عسكريَّة عديدة مُدجَّجة بالأسلحة والجنود تدخل القرية من الجهة الشِّماليَّة، ولم نكن نعلم ما هو الهدف من ورائها”.

وتابع “العلي” قوله: “في بداية تهجيرنا، كنّا نعتقد أنَّه لن يطول مثل المرّات السّابقة سوى خمس إلى عشرة أيّام أو شهر، ولكنَّه طال كثيراً”.

وحول كيفيَّة خروجهم من القرية، قال: “بعد دخول جيش الاحتلال التُّركيّ ومرتزقته قريتنا، صعدنا سيّاراتنا وتوجَّهنا إلى بلدة عين عيسى، وتركنا خلفنا كُلَّ شيء، فقط أنقذت عائلتي، واستقرَّت بنا الأمور في المُخيَّم، على أمل العودة إلى قرانا، ولكنَّ التَّهجير طال كثيراً”.

وأكَّدَ “العلي”، أنَّه بعد خروجه من منزله، أخبره أحد أقربائه في القرية، بأنَّ المرتزقة وقوّات الاحتلال التُّركيّ أحضروا جرّافات، وهدموا منزله بالكامل، وأشار إلى أنَّ “أنَّ بعض أقربائه توسّلوا إلى قوّات الاحتلال والمرتزقة لإخراج أثاث وأغراض المنزل، إلا أنَّهم طردوهم ولم يسمحوا لهم بذلك، وقاموا بتسوية البيت مع الأرض، والآن اتّخذوا منه ساتراً لهم، فكيف لنا أن نسامح عدو هدم بيتي الذي عمره أكثر من /150/ عاماً؟، فالمُحتلّ خلالَ لَحظةٍ هَدَمَ المنزل ولم يبقِ له أثراً، ولكن لاتزال تلك المشاهد تُشكِّلُ حَرقةً في قلوبنا، ولا يمكن أن تنطفئ نيرانها إلا بعودتنا إلى منازلنا وقرانا وأهلنا وزراعتنا، وكُلُّ من يدَّعي أنَّ تركيّا جاءت لتحرير المنطقة من الإرهاب، فهو كاذب ومخادع، لأنَّ تركيّا هي الإرهاب بعينه”.

وعن حياتهم في ظل الإدارة الذّاتيَّة وبحماية قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، قال “العيسى”: “كُنّا في غاية السَّعادة ونشعر بالأمن والاستقرار في ظِلِّ حماية قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة لنا في قرانا، ولم نشعر بأيّ مضايقة أو اعتداء من أحد، حتّى لم يَمُرّ علينا يوم وطرق أحد علينا الباب لسبب ما، ونحن هنا في المُخيَّم يحدونا الأمل بالعودة إلى منزلنا المُهدَّم في وقت قريب، ورغم تمسّكنا بأرضنا، إلا أنَّ حالة النّزوح والتَّهجير القسريّ أثَّرت على أطفالنا، حيث لا زال الخوف يلاحقهم، والقصف المتواصل على مناطقنا، يخلق حالة من الرُّعب والإرهاب في نفوس الأطفال، خاصَّةً أنَّ القصف غالباً ما يكون عشوائيّاً، ويستهدف المدنيّين، وبمجرَّد سماع الأطفال أيَّ صوت أو انفجار؛ يعتقدون أنَّ طائرات الاحتلال التُّركيّ قادمة لقصفهم”.

وتمنّى “العلي” بأن تتمكّن قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة من تحرير مناطقهم، كي يتسنى لهم العودة إلى منازلهم، وأن يكونَ هذا النّزوح هو الأخير بالنِّسبة لهم. وأكَّدَ أنَّهم لم ولن يتغيَّروا، وسيعودون إلى منازلهم مكرَّمين مرفوعي الرَّأس، وسيعيدون بناء ألف منزل بدلاً من المنازل التي هَدَمَها الاحتلال ومرتزقته، وسيزرعون أرضهم التي أحرقها العدو، ويحدوهم أمل كبير في العودة إلى قراهم في وقت قريب جدّاً.

كذلك قالت النّازحة “سماح إبراهيم” المقيمة في مُخيَّم “تل السمن”: “كُنّا سعداء وحياتنا كانت مستقرّة، وسط جميع أهالينا وأقربائنا، لكن بعد وقوع الاحتلال، مَرَّت عِدَّةُ سنوات لم نلتقِ فيها لا بأم ولا أخت ولا أخ ولا أيَّاً من أقربائنا، فقط نتحدَّث معهم من بعيد عن طريق الهواتف المحمولة”.

وحول الموقف أثناء احتلال قريتهم، قالت “إبراهيم”: “كُلُّ النّاس كانت خائفة، ولا تدري ما مصيرها، خاصَّةً أنَّ الكُلَّ كان خائفاً على أولاده البنات، فقط الهَمُّ الوحيد للعوائل كان ألا تتعرَّض للأذى والاعتداء من قبل المُحتلّين”.

وعن أوضاع الأطفال أثناء قصف الاحتلال التُّركيّ لمناطقهم، قالت “سماح”: “إنَّ الأطفال أكثر من يشعرون بالخوف من القصف، فتجد جميعهم يتجمَّعون حول بعضهم، وهنا أتساءل؛ لماذا أصبحت أحوالنا هكذا، فلقد انقطعت بنا كُلُّ السُّبُل، وإن أراد شخص ما الخروج من هنا، فإلى أين سيتّجه، فلا مكان يلجأ إليه، حقيقة ضاقت بنا الحياة كثيراً”.

وذكرت “إبراهيم” أنَّ أطفالهم يحلمون بامتلاك درّاجة هوائيّة “بسكليت”، والعودة إلى منازلهم في القرية لاسترجاعها، والطفل الذي ترك وراءه في القرية ألعابه يتمنّى العودة لها”.

واختتمت حديثها بالقول: “إنَّ هدف وأمنية أيّ أم أو أب أن تستقرَّ عائلته، ويكون جميع أفراد أسرته معه، ولا يتمنّى شيئاً آخر”.

كما تحدَّثت الطفلة “شام العلي” ببراءة الأطفال، وقالت: “أنا مشتاقة لبيتي وكذلك لجدَّتي”.