كركوك … والسقوط المدوّي

بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد

كشف الانهيار الكبير والسريع في باشور كردستان (جنوب كردستان)، عن عمق الأزمة التي يعيشها الجنوب والعراق، وكيفيّة التقاء مصالح كافة الأطراف، التي تسعى كلّ منها إلى توظيف السقوط المدوّي للتجربة الكرديّة في المناطق المتنازع عليها، وبما يتوافق مع مصالحها الإستراتيجيّة في العراق.

الإنكليز جعلوا من كركوك قنبلة موقوتة

انسحاب قوات البيشمركه من كركوك وكافة المناطق المتنازع عليها بين حكومة الإقليم والحكومة الفيدراليّة العراقيّة، وبهذا الشكل المُريع والمخزي، هو حصيلة تراكمات سلبيّة عديدة من جانب حكومة وإدارة الإقليم وعلى مدى عقود، مُضافاً إليها التجاذبات السياسيّة والصراع الدائم بين الطرفين – حزب الاتّحاد الوطنيّ الكردستانيّ والحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ – في الاستئثار بثروات المدينة وفرض سلطتهما عليها، هذا إضافة إلى عوامل داخليّة وخارجيّة أخرى، أهمها:

1 – كركوك مثلما يعتبرها الكرد “قدسهم”، فإنّها في ذات الوقت قنبلة موقوتة، كرّس وضعها الراهن الإنكليز في فترة حكمهم على العراق، ومنها دائماً انطلقت شرارة الصراعات الكرديّة – العراقيّة، ولم تشهد فترات هدوء، إلا وأعقبتها حرب كادت تودي بالعراق برمّته.

2 – منذ أن تمّ إقرار الدستور العراقيّ عام 2005، وضع الأمريكيّون هذه المرّة صاعقاً آخراً قابل للانفجار في أيّ لحظة، فوضع كركوك والتي تشمل محافظة كركوك وكافة الأقضية التابعة لها (خانقين، طوز خورماتو، كفري، ..الخ) إضافة إلى شنكال، بعشيقه، سنوني، زمّار وسهل نينوى مروراً بقضاء مخمور وصولاً إلى معبر (اليعربيّة) ضمن المناطق المتنازع عليها، وتعادل مساحتها ضعفي مساحة لبنان، وثلث مناطق جنوب كردستان، ما هي إلا لإشعال حروبٍ لاحقة بين الطرفين الكرديّ والعربيّ، وتكون سبباً أساسيّاً في عدم استقرار العراق والمنطقة.

3 – ما زاد من تعقيد قضيّة “المناطق المتنازع عليها”، هو المخطّط الذي أعدّت له في الفترة الأخيرة كلّ من إيران وتركيّا، عبر تحريك أدواتهما في العراق، ممثّلاً في الحشد الشيعيّ والتركمانيّ، بذريعة معارضة الاستفتاء على الاستقلال الذي أجري في 25 أيلول/سبتمبر الماضي، وهي القشّة التي قصمت أيّ طموح كرديّ نحو الاستقلال وتشكيل دولة كرديّة.

4 – الصراعات والأزمة الداخليّة التي يعيشها الإقليم، استغلّتها القوى المعادية له في ضرب المكتسبات الكرديّة، فتردّي الأوضاع الاقتصاديّة في الإقليم، وتوقّف الحياة السياسيّة من تعطيل البرلمان والتمديد غير الشرعيّ لرئيسه البرزانيّ ولدورتين متتاليتين، وعدم حصوله على إجماع من القوى السياسيّة في طرح قضيّة الاستفتاء، أدخل الإقليم في عنق الزجاجة، وأفقده الكثير من أوراق القوّة التي كان يملكها.

عقم النظريّة القوميّة

رئيس الإقليم بتحدّيه للإرادة الدوليّة في المضيّ قُدُماً في إجراء الاستفتاء، دون الحصول على ضمانات دوليّة وخاصّة من أمريكا ودول الاتّحاد الأوروبيّ وبريطانيا، بل ورفضه أيّ رأيٍ بتأجيله إلى موعدٍ لاحق، أثار حُنُقَ وغضب العديد من القوى. وكردّ فعل، تقوقع البارزانيّ ضمن الإقليم ولم يستنفر دبلوماسيّاً وسياسيّاً من أجل كسب تعاطف دوليّ مع الاستفتاء الذي أجراه، وتعامل مع معاداة الاستفتاء والرفض له بعقليّة متزمّتة لا تراعي مصالح الدول الإقليميّة وكذلك نصائح الدول الكبرى.

الانكسار في كركوك يوازي في آثاره وتداعياته نكسة 6 آذار 1975، وهي ذات القوى التي تسبّبت في النكستين، وللأسف لم تتّعظ منهما، بل تروّج لانتصار مزعوم، رغم الحالة المزرية التي يمرّ بها الإقليم، سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً، فالتصدّع في البيت الكرديّ ازداد هوّة، والتراجيديا الكرديّة عادت لتتصدّر المشهد في المنطقة، والأنكى أنّ القادة منشغلون في الاستفتاء الذي فجّر الأوضاع وأوصلها إلى هذه الهاوية، أكثر من انشغالهم بسقوط كركوك وكافة المناطق التي كانت تحت سيطرتهم، وتداعياته.

سقوط كركوك في بعده الفكريّ والسياسيّ، يتجلّى بعقم الأطروحات والنظريّات القوميّة في عالمنا الراهن، فمفهوم الدولة القومويّة التي أصبحت وبالاً على شعوب المنطقة، يبدو أنّ الكرد لم يأخذوا منها العِبَر والدروس، فرغم مخطّطات الدول المعادية لحقوق الكرد، إلا أنّ قوى باشور لم تغيّر ذهنيتها في فهم معادلة السياسة الدوليّة، وتحاول إعادة إنتاج مفهوم الدولة القومويّة بكلّ بشاعتها ومآسيها، فظاهرة حكم “العشيرة والعائلة” تكرّس في الإقليم، وتفشّي الفساد والمحسوبيّات، إلى جانب تشديد القبضة الأمنيّة لكلّ من يعارضها، كلّها عوامل كبّلت إرادة شعب باشور وأبعدته عن الحياة السياسيّة والمشاركة في صناعة قرار الإقليم السياسيّ والاقتصاديّ.

ماذا حصل في اجتماع دوكان..؟؟

تبادل الاتّهامات بين الطرفين الرئيسيين في الهزيمة؛ الاتّحاد الوطنيّ الكردستانيّ والحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ، لن يبرّر ساحتيهما بمطلق الأحوال، فالبرزانيّ وفي بداية سقوط كركوك بيد الحشد الشعبيّ ألقى باللائمة على قسم من قيادات الاتّحاد، ولكن انسحاب البيشمركه التابعة لحزبه من مناطق شنكال وسهل نينوى والعديد من المناطق الأخرى، وضعته في نفس مربّع الاتّهام مع الاتّحاد الوطنيّ، فإن كانت عائلة الطالبانيّ قد اتّفقت مع “قاسم سليمانيّ وحقّان فيدان وهادي العامري” نكاية باستفراد البرزانيّ بالسلطة ومقدّرات الإقليم، فإنّ البرزانيّ يتحمّل مسؤوليّة هذا السقوط باعتباره رئيساً مفترضاً للإقليم والقائد العام لقوّات البيشمركه، ولا يُعقل ألا يكون له علمٌ بذلك الاتّفاق، فاجتماع دوكان قبل سقوط كركوك بيوم واحد، وضع النقاط على الحروف، وكان الاتّفاق مع سليماني وفيدان جاهزاً قبله، فقط كان بحاجة إلى توقيع كافة من حضروا دوكان.

هزيمة داخليّة قبل أن تكون خارجيّة..!!

القيادة التقليديّة في باشور عوّدت الشعب الكرديّ على الانكسارات والهزائم التي تكرّرت في التاريخ القريب والبعيد، ويُستنتج منها أنّها غير مؤهّلة لأن تقود الشعب الكرديّ لنيل حقوقه المشروعة والديمقراطيّة. وهي – أيّ الهزيمة الراهنة – تشير بكلّ وضوح إلى خلل وفجوةٍ كبيرة في بنية وتركيبة السلطة السياسيّة في باشور، وإلى صراع بين أقطابها وقواها التي صادرت إرادة الشعب، وشرعت تبحث عن فضاءات أخرى لتصدّر أزمتها وتحافظ على مصالحها ومكتسباتها السلطويّة؛ غير آبهةٍ بمصير الشعب الذي يعاني الأمرّين. هذه المسافة بين الشعب والسلطة، كرّست لهزيمة داخليّة قبل أن تحصل الهزيمة الخارجيّة.

رغم ذلك، إلى الآن لم يصدر أيّ تصريح يكشف عن أسباب تلك الهزيمة، فقط صدرت بعض الأصوات الخجولة والخافتة، تهدّد بعدم السماح للحشد الشعبيّ في الاقتراب من حدود الإقليم التي رُسِمَتْ قبل عام 2003.

غلوٌّ مذهبيّ مقيت يحكم أفعال الحشد الشعبيّ

من جانبه الحشد الشعبيّ والذي يتحرّك تحت عباءة “شرعيّة الدولة العراقيّة”، معبّأٌ بفكرة التطرّف الشيعيّ التي تغذّيها إيران، حتّى أصبح أداة طيّعة في يد الثانية، لتفرض سيطرتها المطلقة على كامل العراق، وتهدّد بها أعداءها، الأعمال الوحشيّة التي ارتكبها في كلّ المدن الكرديّة التي سيطرت عليها، كشفت حجم الغلوّ المذهبيّ المقيت الذي يحكم أفعاله، رفع الأعلام الطائفيّة والمذهبيّة وحتّى الإيرانيّة، نهب منازل الكرد وحرقها، قتلهم في الشوارع، اعتقالات بالجملة، إهانة رموز الكرد وأعلامهم، كلّها تنمّ عن كيديّة وحقد دفين فجّره الإيرانيّين والأتراك الذين رافقوا وأشرفوا على كلّ الاقتحامات في المدن والقرى الكرديّة.

العراق واصطفافاته الجديدة

الحكومة العراقيّة تبحث عن دعم ومساندة عربيّة ودوليّة لشرعنة سيطرتها على كركوك، فهي استنفرت داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً لكسب اصطفافات جديدة في جبهة معارضتها للكرد، فتحاول إحداث شرخ بين الكرد والعرب السنّة في العراق ممّن تحالفوا مع الكرد، أمام تغوّل التيّار الشيعيّ واستئثاره بمفاصل الدولة العراقيّة وقُدُراتِها، بحيث حوّلوها إلى “دولة مذهبيّة صرفة”، وخرج العرب السنّة مغبونين من الاستفراد الشيعيّ بالسلطة والذي تقف وراءه إيران. روح الانتقام تسيّر عمليّات الحشد الشعبيّ في المدن والقرى الكرديّة والسنيّة، وهذا ما حصل إبّان تحرير الموصل أيضاً.

زيارة رئيس وزراء العراق حيدر العبادي إلى السعوديّة تأتي في هذا السياق، فرغم أنّ السعوديّة هي الأخرى تسعى إلى جرّ العراق إلى حلفها السنّي وقطع دابر إيران فيها، إلا أنّها في ذات الوقت متخوّفة من أيّ تحالف معها قد يصل بها إلى الوقوع في الشرك الإيرانيّ، وهي في هذا متردّدة نوعاً في دعمها للكرد في باشور، كيلا تخسر العراق ليسقط بأكمله في الحضن الإيرانيّ التي لم تغادره منذ عام 2003.

أمريكا تؤسّس لمعركة مع إيران عبر البوّابة الكرديّة

الصمت الأمريكيّ المُريب حيال تمدّد إيران وتركيّا في كركوك وكافة المناطق، كشف عن ازدواجيّة الموقف الأمريكيّ، وربّما تؤسّس أمريكا لبدء صراع جديد مع إيران عبر البوّابة الكرديّة، وبالذّات من كركوك، بزجّ الكرد في الجبهة الأماميّة، خاصّة إذا ما أدركنا أنّ الأهداف التي حدّدتها الإدارة الأمريكيّة بعد تولّي ترامب الرئاسة؛ هي دحر الإرهاب وتقليص نفوذ إيران في سوريّا والمنطقة عموماً. فعادت تتحدّث عن حماية الإقليم من أيّ مدّ من طرف الحشد الشعبيّ تجاه المناطق التي تقع تحت سيطرة حكومة الإقليم، وكأنّها توحي بأنّ فترة “تأديب” الإقليم قد انتهت، بعد أن تمرّدت على قرارها في تأجيل الاستفتاء.

من الغباء إسقاط تجربة باشور على روج آفا وشمال سوريّا

سقوط كركوك في هذه المرحلة، وكما سابقاتها، ليست إلا محطّة تفاهم وقتيّة، سرعان ما تُستأنف بعدها حروب قد تشعل المنطقة برمّتها، وإذا كان البعض يعتقد أنّه لن تقوم قائمة للكرد بعدها، فهم واهمون، والتفكير بإسقاط تجربة كركوك على روج آفا وشمال سوريّا؛ إنّما يدلّل وبوضوح لغباء فكريّ وسياسيّ منقطع النظير، فحوامل مشروع الكرد في روج آفا والذي يتقاسمونه مع كافة المكوّنات السّوريّة في الشّمال السّوريّ في الفيدراليّة الديمقراطيّة لشمال سوريّا، مختلفة كليّاً عن تجربة باشور كردستان، في الأهداف والإستراتيجيّات.

تركيّا ومحاولة احتضان PDK مرّة أخرى، ولكن ضعيفاً

لكن يساور العديد من الكرد مخاوف جرّ قيادة باشور إلى تحالفات جديدة – قديمة بالضدّ من المعادلة المتشكّلة في المنطقة بسيادة أمريكا وروسيّا على المشهد السياسيّ والعسكريّ. فانحياز الاتّحاد الوطنيّ الكردستانيّ للحلف الإيرانيّ واضح وليس وليد اليوم، وهو كان العامل الأوّل في سقوط كركوك، كذلك محاولات تركيّا ترميم العلاقة مع قيادة الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ، وإعادة احتضانه مرّة أخرى، ولكن أضعف ممّا كان سابقاً، مازالت قائمة. بعد أن فشل الاستفتاء في الإعلان عن الدولة المستقلّة، تدور نقاشات في الغرف السرّيّة المغلقة بتنشيط العلاقات مع تركيّا، والإيماءة التي صدرت من وسائل إعلام محسوبة على قيادة الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ في إنشاء كونفيدراليّة بين باشور كردستان وتركيّا، يمكن فهمها في هذا السياق.

لا يختلف اثنان أنّ سقوط كركوك أفرز معادلة جديدة في كردستان والمنطقة، فإن كانت إيران وتركيّا مزهوّتان بانتصارهما، فحريّ بالكرد، وفي هذه المرحلة التاريخيّة الحرجة والحسّاسة، الشروع مباشرة إلى عقد المؤتمر الوطنيّ الكردستانيّ لِلَملمة وترتيب البيت الكرديّ الداخليّ، فلقد أثبتت التجربة في كركوك مرّة أخرى أنّه ليس للكرد أصدقاء سوى الكرد وجبالهم.