تحرير الرّقّة … ورسم الخارطة السياسيّة في سوريّا
صدرت تصريحات، ومن عدّة مسؤولين من النظام السّوريّ، تهدّد وتتوعّد قوّات سوريّا الديمقراطيّة بالويل والثبور، إن لم “تسلّم” لها مدينة الرّقّة التي حرّرتها الأخيرة من تنظيم داعش، فيما يسابق – أي النظام – الزمن في السيطرة على مناطق دير الزور الشرقيّة والشّماليّة؛ متذرّعة بسلاح “فرض سيادة الدولة على الأرض السّوريّة”.
تحرير الرّقّة قلب حسابات الكلّ
لا يُخفى على أحد أنّ مدينة الرّقّة عانت ما عانته من ويلات داعش، وكونها النقطة الأضعف للنظام، ولا حاضنة شعبيّة واسعة له فيها، بل هي ودير الزور دائماً كان ولاؤهما للعراق بسبب الانتماء العشائريّ المشترك، وكذلك امتعاضهم من النظام السّوريّ، ونظراً لموقعها الجغرافيّ والإستراتيجيّ الهام؛ جعلها تنظيم داعش الإرهابيّ عاصمته المزعومة، ومنها تحرّك يميناً وشمالاً ليسيطر على ثلثي الجغرافيا السّوريّة، وثلث الأراضي العراقيّة. حينها لم يتحرّك أحد لتحرير الرّقّة من إرهاب داعش ولم تهتزّ لهم شعرة، بل تقاطعت مصالح العديد من الجهات والأطراف مع التنظيم الإرهابيّ، وتمّ توظيفه في تصفية الخصوم والمعارضين، ليعقدوا معه اتّفاقات سرّيّة تحت الطاولة، خاصّة في ميدان توريد النفط من المناطق التي سيطر عليها التنظيم.
لاشكّ أنّ تحرير مدينة الرّقّة وريفها من التنظيم الإرهابيّ، قلب الطاولة على أطراف وقوى كثيرة، وأوّلها الدولة التركيّة، التي استبعدت هي وغيرها من المشاركة في تحريرها، فكان الرهان منذ البداية معقوداً على قوّات سوريّا الديمقراطيّة وحدها، فيما قوّات النظام لم تضع الرّقّة في حساباتها في يوم من الأيام، والتصريح الذي أدلى به الرئيس السّوريّ عام 2015 وادّعى فيه بأن “الرّقّة قريباً سترجع إلى حضن الوطن”، تبيّن أنّه لم يكن سوى بيع الوعود المعسولة وكلام من قبيل الاستهلاك المحلّي لطمأنة حاضنته ومواليه، حيث كان النظام حينها في أضعف مراحله.
ضخّ إعلاميّ خارجيّ ومحاولة الالتفاف على التحرير
الآن، تحاول قوى عديدة توظيف تحرير الرّقّة في خدمة مصالحها الخاصّة، وتجيّره في منحى غير وطنيّ، ولقد اعتاد الشعب السّوريّ طيلة سبع سنوات من عمر الأزمة ومن القوى التي تدّعي بأنّها “ثوريّة” على إنشاء إمارات إسلامويّة وخاضعة لنفوذ الميليشيّات وتُدار بعقليّة العصاباتيّة، فتكون أسطع مثال على الفوضى، ليستغلّها النظام ويطرح نفسه على أنّه هو البديل، كما حصل في جرابلس والباب وإعزاز ومؤخّراً في إدلب، والتي تشهد يوميّاً صراعات بين تلك الميليشيّات ويتعرّض سكّان المنطقة للإذلال والتنكيل من قبل القوى التي تدّعي أنّها حرّرتهم من النظام.
غير أن قوّات سوريّا الديمقراطيّة، كسرت هذا الخطّ المتّبع، وانبرت منذ اليوم الأول لبدء عمليّاتها إلى تحرير أهلها من الإرهاب المتربّص بهم، فلا توجد منطقة أو قرية حرّرتها إلى وعاد إليها أهلها، بعد تنظيفها من الألغام والمفخّخات التي خلّفها تنظيم داعش الإرهابيّ.
بالتوازي مع ذلك، شرع أهلها في تشكيل مجالسهم المحلّيّة التي تُدير أمورهم الخدميّة والتنظيميّة، إلى جانب تأسيس قوّات الأمن الداخليّ لتحافظ على أمنهم واستقرارهم، وليعودوا إلى ممارسة حياتهم الاعتياديّة.
هذا الإنجاز الوطنيّ بامتياز، لم يرُق لأصحاب الدعوات التقسيميّة والطائفيّة والمذهبيّة، ويحاولون في الآونة الأخيرة تشويه وتصغير الانتصار على داعش في الرّقّة، عبر بثّ الفتن والنعرات القوميّة والطائفيّة، من قبيل “أنّ الكرد يحكمون العرب”، والرّقّة عربية”، وشراء الذمم والنفوس الرخيصة. طبعاً كلّ هذا الضخّ الإعلاميّ ومحاولة الالتفاف على انتصار الرّقّة، مصدره من خارج سوريّا، وبالأخصّ تركيّا، حيث تحرّك أذرعها في الداخل لكبح جماح تقدّم قوّات سوريّا الديمقراطيّة وإشغالها في معارك جانبيّة، كما حصل في منبج عبر الدعوة إلى إضراب لأصحاب المحال التجاريّة ضدّ ما سمّه بـ”التجنيد الإجباريّ”، والتي لم تلقَ آذاناً صاغية من أحد.
إيران وتركيّا تتحدّثان باسم السّوريين
أهداف هذه الحملات المغرضة تتقاطع مع أجندات العديد من الدول الإقليميّة مثل تركيّا وإيران، فتصريح مستشار خامنئي علي أكبر ولايتي بأن قوّات النظام ستتوجّه إلى الرّقّة لتحريرها من (قسد)، وسبقه تصريح نائب وزير الخارجيّة السّوريّ فيصل المقداد بقوله “إن الرّقّة غير محرّرة”، وكذلك تأكيد الرئيس السّوريّ بأنّ “المواجهة مع قسد قادمة لا محالة”، والذي نقله عنه زوّار له قبل عدّة أيام. كلّ هذه التصريحات تنسف ما صرّح به وزير خارجيّة النظام وليد المعلم “بأنّ النظام مستعدّ للحوار حول إدارة ذاتيّة للكرد”. هذا إلى جانب أنّ قائد القوّات الروسيّة في قاعدة حميميم نشر على لسان مسؤولين سوريين أنّ “هناك مواجهة مرتقبة مع قوّات سوريّا الديمقراطيّة في الرّقّة ودير الزور”.
استدارة للنظام … وشرعنة روسيّة للاحتلال التركيّ لإدلب
استدارة النظام نحو تصعيد لهجته ضدّ الكرد وقوّات سوريّا الديمقراطيّة، مبعثها الضغوط الإيرانيّة والتركيّة، وهي بكلّ الأحوال تأتي في سياق اتّفاق الدول الثلاثة حول تقويض انتصارات الكرد وشركائهم في سوريّا وحتّى في باشور كردستان أيضاً، ويبدو أنّ هناك رضا روسيّ غير معلن عن هذه التحرّكات التي تقوم بها كلّ من إيران وتركيّا وباسم النظام السّوريّ. والاحتلال التركيّ لإدلب، الذي تحاول روسيّا أن تسبغ عليه مِسحة من “الشرعيّة” عبر ما يسمّى بمقرّرات “اجتماع أستانه”؛ جوهره محاصرة قوّات سوريّا الديمقراطيّة ولجمها من تحقيق انتصارات أخرى على الجغرافيا السّوريّة.
بدء إعادة إعمار الرّقّة
الادّعاء بأنّ قوّات سوريّا الديمقراطيّة ومعها قوّات التحالف الدولي لمحاربة داعش، في سباق محموم مع قوّات النظام وحلفائه وخاصّة روسيّا وإيران في السيطرة على منابع النفط في دير الزور، تدحضه الوقائع على الأرض. فقبل تحرير أيّ مدينة، يشرع مجلس سوريّا الديمقراطيّة، والذي هو المظلّة السياسية لقوّات سوريّا الديمقراطيّة، إلى تشكيل المجالس المحلّيّة لإدارة أمور سكّانها من الناحية الخدميّة والتعليميّة والصحيّة، وهو ما حفّز الأهالي للالتفاف حول قوّات سوريّا الديمقراطيّة وتوجيه النداء تلو الأخر لتحريرهم من داعش، على عكس المناطق التي يستولي عليها النظام، فهي حتّى الآن فارغة من سكّانها، مثل دير حافر ومسكنه، بل دير الزور التي ادّعى أنّه سيطر عليها، ولكن سكّانها فرّوا منها باتّجاه مناطق قوّات سوريّا الديمقراطيّة، ولاحقتهم طائرات النظام وروسيّا لتقصف أرتال وجموع النازحين وتتسبّب بمقتل العديد منهم.
الرّقّة الآن دخلت في طور إعادة الإعمار، ليعود سكّانها إلى بيوتهم التي طالها دمار الإرهاب الداعشيّ، فعودة أهالي حي المشلب قبل أيّام، تكذّب الافتراءات التي ساقها بعض المطبّلين والمزّمرين، عن تهجير أهالي الرّقّة، وعدم السماح لهم بالعودة، بل يمكن القول بأنّ الرّقّة ستعود أفضل ممّا كانت، لتكون نموذجاً في التآخي والتعايش بين كافة المكوّنات، فمن يدّعي أنّ هويّتها “عربيّة” فقط، نقول لهم “إنّها سوريّة بامتياز” ولن تكون غير ذلك.
على النظام الحوار مع الفيدراليّة وليس حبك المؤامرات
تباكي النظام وحلفائه على الرّقّة والمناطق التي حرّرتها قوّات سوريّا الديمقراطيّة؛ مردّه أنّها خرجت عن سيطرته، لأنّه كان يعتبرها البقرة الحلوب التي تدّر لها النفط وموارد الطّاقة الرئيسيّة، فتحرير ثلاثة سدود رئيسيّة، إضافة إلى تحرير 70% من منابع النفط، تجعل من قوّات سوريّا الديمقراطيّة لأن تكون مؤهّلة لتلعب دوراً رياديّاً في إعادة اللحمة الوطنيّة، وتوزّع هذه الثروات بشكل عادل على كافة المناطق السّوريّة، وليس وضعها في خدمة طرف أو قوّة إقليميّة، فإن كان اللُهاث وراء الاستحواز على مصادر الطّاقة الرئيسيّة يدفع النظام ومناصريه لنصب العداء مع قوّات سوريّا الديمقراطيّة وفيدراليّة شمال سوريّا، فإنّه ضرب من الغباء السياسيّ المفرط الذي ينمّ عن قصور في الرؤية الوطنيّة والقبول بالإملاءات الخارجيّة، فالأجدى بالنظام القبول بالحوار مع فيدراليّة شمال سوريّا حول كيفيّة الخروج من الأزمة الراهنة التي تعصف بسوريّا، وليس تدبير المؤامرات لنسفها، والنظام في قرارة نفسه يقبل بالحوار، ولكن القوى الإقليميّة تصدّه وتمنعه من الإقدام على هذه الخطوة عبر مصادرة قراره السياسيّ والعسكريّ.
لماذا سوتشي وليس حميميم ..؟؟
سياسيّاً، الدعوة الروسيّة لعقد مؤتمر تحت عنوان عريض “مؤتمر شعوب سوريّا”، ونقل مكان المؤتمر من حميميم إلى سوتشي، ومن ثمّ تأجيله إلى موعد غير محدّد، يشير إلى فشل روسيّ في دعوة الأطراف الفاعلة على الأرض، أمام المعارضة الشديدة التي تبديها تركيّا في إقصاء الكرد مرّة أخرى، إضافة إلى ضعف المصداقيّة الروسيّة لدى أطراف المعارضة، باعتبارها طرفاً داعماً للنظام.
الدعوة الروسيّة إلى مؤتمر سوتشي جاءت بعد فشل اجتماعات أستانه في الوصول إلى تهدئة عسكريّة، فهي ارتأت لأن يكون سوتشي بديلاً لأستانه، أو بكلمة أدقّ مكمّلاً له، باعتبار أنّ أستانه انحصر في الجانب العسكريّ دون السياسيّ، ولكن الوصاية التركيّة عليه تظهر وكأنّ تركيّا هي طرف سوريّ وليس خارجيّ. تصريح نائب وزير الخارجيّة الروسيّ ميخائيل بوغدانوف في ردّه على مسؤولين أتراك حول استبعاد الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة وحزب الاتّحاد الديمقراطيّ PYD، واعتباره أنّ أعضائه هم “سوريّون وليسوا أتراكاً”، ترك أثراً طيّباً في الأوساط الكرديّة، ولكن الصمت الروسيّ على تصريح نائب أردوغان حول استبعاد PYD، ينمّ عن قبول ضمنيّ بالشروط التركيّة، وهو – حسب اعتقادنا – ما كان وراء تأجيل المؤتمر إلى إشعار آخر.
أمريكا وتقزيم الدور الإيرانيّ
روسيّا وباعتبارها قوّة عظمى، تدرك جيّداً الدور السلبيّ والهدّام الذي تلعبه تركيّا وإيران في سوريّا، وهي في هذا أمام استحقاق كبير في المفاضلة بين مصالحها مع أمريكا وتركيّا، واللقاء المرتقب بين الرئيسين الروسيّ والأمريكيّ على هامش قمّة منتدى التعاون الاقتصاديّ لدول آسيا والمحيط الهادئ في فيتنام يومي 10 و11 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، ربّما تضع النقاط على حروف خاتمة الأزمة السّوريّة، وتنهي – نوعاً ما – الجدل الدائر حول صراع النفوذ على (وفي) سوريّا، وخاصّة في تقليم أظافر إيران وتركيّا، عبر تهيئة الأجواء لحوار وطنيّ جاد بين كافة أطراف المعارضة، بعيد عن تدخّلات الدول الإقليميّة، ويفضي إلى حلّ سوريّ – سوريّ. والإدارة الأمريكيّة اليوم أكثر إصراراً على تقزيم الدور الإيرانيّ في سوريّا، ومن غير المستبعد أن تفتح مواجهة عسكريّة مباشرة معها في حال أصرّت إيران اللعب على الوتر المذهبيّ في سوريّا والعراق معاً، وروسيّا غير قادرة للوقوف أمام الرغبة الأمريكيّة وإصرارها التحالف مع إيران وتركيّا في زعزعة الاستقرار في سوريّا، لتصل إلى فتح صراع مع أمريكا، بل تسعى إلى توافق معها على مصير المنطقة، وقد رُسِمَتْ الخطوط العريضة بين روسيّا وأمريكا عام 2015 فيما سمّي حينها بـ”اتّفاق كيري – لافروف” على غرار اتّفاقيّة “سايكس – بيكو” قبل مائة عام.
بقلم الكاتب السياسيّ والإعلامي: جميل رشيد