بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد
أسوأ ما في الثورات؛ أن تنقلب إلى ثورة مضّادة لنفسها، تفتك بكلّ ما بنته بكدح ودماء أبنائها طيلة سنيّ عمرها. الثورات في مراحلها الحرجة ومنعطفاتها التاريخيّة والحسّاسة التي تدير في بوصلتها، إنّما تأتي على الأخضر واليابس، ولا تبقى خارج استثناء قانون “الثورة تأكل أبناءها”. والأخطر فيها أنّها تقضي على حلم “الملايين” الذي طالما دغدغته بخطاباتها “الثورويّة” المفعمة بالوعود المعسولة بِغدٍ أجمل وأفضل من ماضيها وحاضرها، لتتحوّل في لحظة تاريخيّة معيّنة، إلى نموذج تتعدّى في مظالمها وآليّات قمعها، الأنظمة التي هبّت لتقلبها وتغيّرها.
ماهي أساليب الثورة المضّادة..؟؟
ما أتينا إليه يسري تماماً على الثورة السّوريّة، والتي يمكن القول عنها بأنّها “الثورة المغدورة”، غدر بها على أيدي من فجّرها قبل أن يتمّ الغدر بها على يد النظام، فانقلبت إلى مصارعة للثيران لا أكثر. هذا عداك عن الانحرافات الفكريّة والإيديولوجيّة التي سبغت الثورة – هذا إن سلمنا بأنّه كانت لها حوامل ثورة فكريّة – فغدت أبشع مثال في التاريخ عن المطالبة بالحقوق والكرامة.
التظاهرات العفويّة التي انطلقت في شوارع درعا ومن ثمّ في حمص وغيرها من المدن السّوريّة، صادرتها تيّارات سياسيّة إسلامويّة وعلى رأسها الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة، وركبت موجة الاحتجاجات لتديرها وفق أهوائها الشيطانيّة، ولتغدو سوريّا ساحة لتصفية الحسابات والاقتتال المذهبيّ والطائفيّ بين المجموعات العسكريّة المتعدّدة، ثمّ لتربط مصيرها بدول إقليميّة، غذّت التطرّف ومدّتها بكافة وسائل وأساليب تصفية الثورة، حتّى أضحت الأخيرة ضحيّة تقاذفها اللاعبون الإقليميّون والدوليّون وفق مصالحهم وإستراتيجيّاتهم.
إنّ أحد أساليب الثورة المضّادة، هي أن محاسبة الشعب واعتباره “مذنباً” يستحقّ “التأديب” والعقاب، حتّى يخنع لإرادة القوى التي تُعدّ نفسها المحرّك الرئيسيّ للثورة، وكذلك رفض كلّ الأصوات الأخرى وبأنّها تعدّي على الثورة، وبالتالي يحقّ لها “محاسبتها” وفق قوانينها “الثورويّة” التي وضعتها هي. الأمثلة على هذه ” التجلّيات” التي أتحفتنا بها الثورة السّوريّة كثيرة ولا مجال لذكرها جميعاً، بل سنكتفي بعدد منها فقط. فـ”جبهة النصرة” وضعت لنفسها “فقهاً شرعيّاً” أجازت لنفسها محاسبة كلّ من يخالفه ولتنزل به أسوأ العقوبات في حال رفضه الامتثال لتلك الإرادة، واعتبرت ذلك حقّاً “إلهيّاً” منحه إيّاها “الشرع” الذي تحكم به، حيث تسقط كافة القوانين والتشريعات أمام “التشريع الإلهيّ السّماويّ”، فيما تنظيم داعش تجاوز كلّ النصوص “الفقهيّة والشرعيّة” وحتّى الوضعيّة في معاقبة المجتمعات واستئصالها من جذورها، للقضاء على كلّ ما هو حيّ وذو صلة بالإنسانيّة في تاريخها وحاضرها وحتّى مستقبلها، أي حكمت على الشعوب والمجتمعات بالموت.
الإخوان، النصرة، ثمّ داعش وتعميم تجاربها
مثلما تنقل الأجسام الصلبة الحرارة بالتماس المباشر، كذلك الأمر يسري على المجموعات البشريّة والمجتمعات أيضاً. فالمجموعات العسكريّة الأخرى المنتشرة في السّاحة السّوريّة، تأثّرت بتجربة كلّ من “النصرة” و”داعش” ونقلتهما بحذافيرها، من خلال الفتك بالثورة والثوّار الحقيقيين وبشكل ربّما أبشع من كلتيهما. انتشار ظاهرة “اللصوصيّة” والسرقة والابتزاز والخطف، والقتل على الهُويّة والانتماء الطائفيّ والمذهبيّ، انتشرت بين صفوفها كالنار في الهشيم، وغدت كلّ مجموعة تفاخر بإجهازها على عدد من المعارضين “لخطّها” وليس للنظام، فيما الاقتتال الداخليّ بين المجموعات التي ترفع ذات الشعار وتؤمن بذات الهدف وتسعى إليه، قد أنهك العديد منها، وأوصلها إلى مرحلة الانتهاء أو الارتماء في أحضان ما يدعونه “العدوّ”.
استثمار “فزّاعة” النظام
هناك البعض يلقي باللوم على أفعال من هذا النوع، بأنّها من تدبير “النظام” الذي يحاول شقّ الصفوف وزرع شخوصه ضمن المجموعات “الثورويّة”. لكن الحقيقة مناقضة لذلك بتاتاً، ولا يمكن إنكار دور النظام في تفكيك هذه المجموعات وشرذمتها، وبالتالي لتعمل بالضدّ من مصالح الثورة، لكنّ القشّة التي قصمت ظهر الثورة، هي الانحرافات الفكريّة والإيديولوجيّة التي ظهرت منذ بدايتها، ومن ثمّ سيطرة قيادات “شعبويّة” لا تملك حسّ القيادة والتنظيم، وتفكّر بطريقة “عصاباتيّة”، ديدنها “الانتقام” من كلّ مَنْ لا يواليها، ولا تسعى إلى بناء قاعدة جماهيريّة واسعة واعية ومؤمنة بأهداف الثورة ومآلاتها. هكذا نوع من القيادات سهلٌ عليها الارتماء في أحضان الغير وتوجيهها وفق مصالحها وأجنداتها، وهو ما حصل وبكلّ يُسرٍ مع معظم الأشخاص التي أعلنت عن نفسها أن تبوّأت قيادة الثورة.
شعارات وهميّة وتصفية لقيادات ثوريّة
تصفية القيادات الواعية والمثقّفة على أيدي من يدّعون بأنّهم “ثوّار”، غدت حاجة ضروريّة لإجهاض كلّ محاولات استمرار الثورة في مسارها الصحيح، الأرقام التي نشرتها بعض مراكز الأبحاث والدراسات أشارت وبكلّ وضوح أنّ أعداد القيادات والناشطين والإعلاميين والحقوقيين والأكاديميين وذوي الكفاءات والخبرات العلميّة ورجالات الدولة والإدارة، ممّن تمّت تصفيتهم على أيدي المجموعات المسلّحة، تفوق بكثير من تلك التي قام النظام بتصفيتها، كما ابتكرت لنفسها مسوّغات ومبرّرات لا يقبلها سوى منطق “المافيات” والعصابات وقطّاع الطرق، من خلال ادّعائها بأنّها – أي تلك القيادات الواعية والمثقّفة – “تعرقل” محاولات “إسقاط النظام” تحت شعارات وهميّة مثل، تطبيق “شرع الله” ومحاربة “التكفير” و”مناهضة الديمقراطيّة” والعمل على استئصال “الفتنة ومحاسبة المرتدّين”، حسب زعمها.
صراع بين الثورة والثورة المضّادة
إنّ التفكير بجدّيّة حول فهم كيفيّة تحوّل الثورة إلى ثورة مضّادة، يتطلّب فكّ ألغاز وطلاسم هذه العُقَد التي باتت كأداء، وغدا من الصعب تحليلها وسحبها من جذورها بسهولة، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال الانتقال إلى مرحلة نشطة وفعّالة من استعادة الثورة عافيتها، إلّا بإزالة الأسباب التي أودت بها إلى هذه النتيجة المأساويّة.
الصراع الأساسي الآن يتركّز وبشكل مكثّف بين تيارّي الثورة والثورة المضّادة، وفي أكثر من موضع. وهي أخطر مراحل الثورة، بعد أن انقشعت كافة الغيوم التي لبّدت سماءها، وبات من السهل التمييز بين التيّارين، من خلال الممارسة العمليّة، والتكتّلات والأحلاف التي تشكّلها، فضلاً عن الإيديولوجيّة التي يتبنّاها كلّ طرف.
ما السرّ في الصعود اللولبيّ لثورة روج آفا..؟؟
ثورة روج آفا التي انطلقت في 12 تموز 2012، مثّلت وبشكل واضح قوانين الثورة وأفكارها وأهدافها خير تمثيل، عبر نشر الفكر الثوريّ بين أوساط الجماهير ومشاركتها في صنع هذه الثورة والدفع بها إلى مستويات متقدّمة من التطوّر لإحراز الانتصارات والمكاسب، والدفاع عنها وحمايتها.
الصعود اللولبيّ لثورة روج آفا، استقطب العديد من المكوّنات الأخرى للمشاركة فيها، لتنخرط فيها وتكون جزءاً منها، بعدما أدركت أهدافها، ووجدتها خير من تمثّل روح الثورة وقيمها، فلم تعد مقتصرة على الكرد في روج آفا، بل دخلت آفاقاً أرحب لتساهم وبفعّاليّة في التأسيس لمستقبل سوريّا، من خلال نشر الفكر الثوريّ والتنظيم وتشكيل هيئات وكيانات مجتمعيّة، انعكست بشكل مباشر على حَيَوات الناس، ليس لسدّ الفراغ في المؤسّسات والإدارات، بل تعبئتها وتحفيزها لتلافي الغُبُن الواقع عليها، وكذلك تدارك الهفوات والأخطاء وجوانب القصور المتعمّد التي ارتكبها النظام وباقي المجموعات المسلّحة. فأدرك الجميع حجم الفوارق الشاسعة بين ما ترمي إليه ثورة روج آفا، وبين تلك المجموعات التي مرّت على مناطقهم كأسراب الجّراد.
مهام ووظائف ثوريّة مستجدّة
ثورة روج آفا نسفت كلّ ما يمّت بصلة مع نموذج العيش وفق أسلوب “الثورجيّة” المتعارَف عليه في السّاحة السّوريّة منذ انطلاق الثورة، ووضعت قوانين وأنظمة، ضبطت معها الحراك الجماهيريّ وفق معايير إنسانيّة بالدرجة الأولى، وأعطته زخماً باتّجاه ولادة مهام ووظائف مستجدّة يوميّاً في خضمّ الفعل الثوريّ، من خلال مأسسة العمل الإداريّ والخدميّ، فغدت المسؤوليّة عوضاً عن الهروب، والمبادرة بدلاً من اللامبالاة، والحفاظ على المكتسبات والإنجازات بدلاً من التبديد، والبناء بديلاً من الهدم…إلخ. كلّ هذه المفاهيم والأفكار كانت من صُلب أهداف وإستراتيجيّات ثورة روج آفا، وهي بطبيعة الحال لم تكن “عبثيّة” دون تخطيط ودراسة مستفيضة لها.
القيادات الفاعلة والواعية في الثورات، تدير دُفّة الثورة في اتّجاه – دقيق ومحسوب للغاية – تحقيق أهدافها وبأقلّ الخسائر وفي زمن قصير نسبيّاً، دون أن تغيّر شيئاً من الخطط والبرامج التي وضعتها نُصب أعينها.
مشاركة في صنع القرارات
قيادة ثورة روج آفا لم تعمل وفق عقليّة “مغامراتيّة” غير محسوبة العواقب، فهي صعدت سُلّم الانتصارات درجة درجة، متسلّحة بإرادة فولاذيّة لا تُقهر من التصميم والسير نحو أهدافها دون كلل أو ملل. وبنت قاعدة واسعة من العلاقات والوشائج بين كافة فئات المجتمع، وعلى اختلاف ألوانها وانتماءاتها العرقيّة والطائفيّة، وتعاملت على قدم المساواة معها، دون أن تُغبن أحداً حقّه للمشاركة في كافة المؤسّسات والإدارات وحتّى الحماية وفي صنع القرار السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ أيضاً، ليس في روج آفا فقط، بل في كافة المناطق التي حرّرتها من الإرهاب على الجغرافيا السّوريّة.
ففيما عملت كافة المجموعات السياسيّة والتي تحوّلت بمجملها إلى عسكريّة “صرفة” في السّاحة السّوريّة، على هدم الثورة والوطن بمعولها وأحياناً كثيرة بمعول الغير، لتغرق آمال ملايين الناس في بحر من الدماء والدموع وتزرع بذور “الكراهية”، وتغدو ثورة مضّادة بكلّ معنى للكلمة، انبرت ثورة روج آفا إلى رفع شأن الإنسان وزرع روح المحبّة والتآلف بين كافة المكوّنات المتعايشة بشكل سلميّ وحضاريّ على هذه الجغرافيا، لتغدو واحة للإنسانيّة جَمعاء يتشاركون في السرّاء والضرّاء.