بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد
تدور التكهّنات والنقاشات في الأوساط الاجتماعيّة والسياسيّة حول الأهداف التي حدّدتها قوّات سوريّا الديمقراطيّة ضمن إطار حملتها المستمرّة لمكافحة الإرهاب، بعد أن شارفت حملة “عاصفة الجزيرة” على الانتهاء بتحرير بلدة “الدشيشة” الإستراتيجيّة في ريف دير الزور الشرقيّ، ووصول قسد إلى الحدود العراقيّة وقطعها الطريق أمام مرتزقة داعش.
أفكار مشروعة وتثير التساؤل
تحرير مقاطعة عفرين بات هاجساً يشغل بال الجميع، أفراداً وقوى سياسيّة وعسكريّة، وتعتبر من أولويّات العمل السياسيّ والدبلوماسيّ والعسكريّ في روج آفا وشمال سوريّا. لكن ما هي إمكانيّة إطلاق قسد لحملة مشابهة لـ”عاصفة الجزيرة” في عفرين، وما هي ظروف ومقوّمات دعمها من قوّات التحالف والدول الغربيّة، وما هو موقف روسيّا التي طالما ساندت تركيّا في حملتها لاحتلال مقاطعة عفرين. ومن جانب آخر، إن كانت قسد ومن ضمنها وحدات حماية الشعب والمرأة الـ(YPG) والـ(YPJ) ستبدأ حملة من جانبها فقط، دون أخذ الدعم والمساندة من دول التحالف، هل ستضمن تحقيق نتائجها المرجوّة، وإن كانت الاستعدادات والقدرة التسليحيّة والعسكريّة هي بذات المستوى أثناء الحملة الأولى لمقاومة العصر، ما هي الأسباب التي حالت دون دحر قوى الاحتلال التركيّ، وهل ما تسرّب من أنباء عن مفاوضات بين وحدات حماية الشعب وروسيّا حول “فرض حظر جويّ” على مقاطعة عفرين لها مصداقيّة على أرض الواقع، أم هي مجرّد أماني ولا تغدو أكثر من مضيعة للوقت..؟؟
استمرار التواجد الأمريكيّ مرهون بمكافحة الإرهاب
لا يختلف اثنان أنّ لكلّ قوّة على أرض سوريّا حساباتها السياسيّة والعسكريّة والتي تنسجم مع مصالحها، وعلى ضوئها تنسج تحالفاتها وتحدّد خِياراتها في الحرب والسياسة والدبلوماسيّة، ولكنّها – أي التحالفات – غير مستقرّة وثابتة، نظراً لتغيّر الظروف وموازين القوى، وتبدّل تموضعات القوى على الأرض. قوّات التحالف الدوليّ لمحاربة الإرهاب التي تقودها أمريكا، تؤكّد على استمرار تحالفها مع قسد إلى حين القضاء التّام على الإرهاب، وهو بحدّ ذاته تأكيد فضفاف ويحمّل أكثر من وجه، حيث يتضمّن فيما يتضمّنه تصفية كلّ قوّة صنّفتها أمريكا والدول الغربيّة أنّها “إرهابيّة”، مثل هيئة تحرير الشّام وحركة أحرار الشّام التي أدرجت أسماؤهما على لائحة الإرهاب مؤخّراً. إنّ استمرار التواجد الأمريكيّ في سوريّا، مرتبط إلى حدّ كبير باستمرار حملة مكافحة الإرهاب، بغضّ النظر عن المسمّيات والألوان والأشكال، وهو ما يستدعي وضع المناطق التي مازالت ترزح تحت نير الإرهاب وتعاني من سطوة جرائمه، على جدول أعمالها ومهامها العاجلة، هذا إن كانت جادّة في دعوتها لاستئصال شأفة الإرهاب.
انحسرت ساحة الإرهاب في سوريّا، وانحصرت في المناطق الممتدّة من جرابلس مروراً بالباب، مارع، إعزاز، عفرين، وصولاً إلى إدلب، بعض تلك المناطق صنّفها رعاة أستانه تحت مسمّى “مناطق خفض التصعيد”، ولكن جميعها تحتلّها وتشرف عليها وتديرها تركيّا مع مرتزقتها، وباتت منذ اليوم لوقوعها تحت الاحتلال منبعاً للإرهاب تهدّد ليس سوريّا فقط، بل كامل المنطقة والعالم. وعليه، بدأت كافة الأطراف المعنيّة بعودة الأمن والاستقرار إلى سوريّا، تسلّط الضوء عليها وتوليها الأهميّة، لجهة تنظيفها من الإرهاب.
تركيّا أمام خِيارين
لاشكّ أنّ تحرير تلك المناطق مرهون بالدرجة الأولى بانسحاب القوّات التركيّة منها، وهي قوّات احتلال وفق كلّ مقاييس ومواصفات القانون الدّوليّ، ما يضع الأخيرة أمام خِيارين لا ثالث لهما؛ إمّا “الانسحاب السلس” وحفظ ماء وجهها وترك الأمور لأصحاب الأرض لإدارة أنفسهم بالشكل الذي يريدونه، أو الخِيار العسكريّ، وهو بالضرورة يمرّ عبر فرض منطقة حظر جوّيّ وتسليح وحدات حماية الشعب والمرأة بشكل جيّد، والاستعداد لمواجهة مفتوحة مع تركيّا ومرتزقتها. ولقد ثَبُتَ، ومن خلال تجربة المرحلة الأولى من مقاومة العصر وحتّى 45 يوماً من المعارك، عدم تمكّن قوّات الاحتلال التركيّ ومرتزقته من تحقيق أيّ تقدّم يُذكر، إلى حين استخدامه المكثّف لسلاح الجوّ بعد صدور قرار مجلس الأمن /2401/ القاضي بوقف العمليّات العسكريّة لمدّة ثلاثين يوماً، إلا أنّ تركيّا على العكس زادت من حدّة القصف الجوّيّ ولم يغادر الطيران الحربيّ والمروحيّ سماء عفرين أبداً، حتّى تسرّبت معلومات أنّ الطيران الرّوسيّ والإسرائيليّ أيضا شارك في عمليّات القصف والاستطلاع. وبات معروفاً أنّ حروب القرن الحالي الحسم والغلبة فيها لسلاح الجوّ، واستبعاد الطيران من المعركة، كافٍ لقلب النتائج لصالح أصحاب الأرض والجغرافيا والمتسلّحين بالإرادة والعزيمة قبل العتاد.
إمكانيّة فرض حظر جوّيّ
أثبتت قوّات سوريّا الديمقراطيّة ومن خلال مسيرتها الممتدّة 3 سنوات من الحملات العسكريّة، أنّها القوّة الوحيدة المؤهّلة لتكتب نهاية الإرهاب في سوريّا، حتّى روسيّا التي اتّخذت موقفاً مغايراً منها إبّان احتلال عفرين، يبدو أنّها بدأت تُدرك خطأها التاريخيّ، لتفتح قنوات تعاون دبلوماسيّ وعسكريّ معها، عبر الضغط على دولة الاحتلال التركيّ لسحب قوّاتها من الأراضي السّوريّة، والبيانات والتصريحات المتكرّرة الصادرة من مركز حميميم تصبّ في هذا الاتّجاه، خاصّة بعد فشل صفقة جسر الشغور وشمال منطقة الغاب مقابل تل رفعت، وبعد تحريك تركيّا لورقة مرتزقة داعش ضدّ روسيّا وإيران وقوّات النظام في إدلب، ما أزعج الدبّ الرّوسيّ ودفعه لعمل استدارة ومراجعة لتحالفاته وأولويّاته على السّاحة السّوريّة، حتّى أنّه فتح قنوات اتّصال جديدة مع أمريكا والتحالف الدّوليّ في إطار الضغط على إيران وإجبارها على الانسحاب من بعض المناطق كريف إدلب وتل رفعت وجنوب سوريّا، في محاولة لإرضاء أمريكا، ما يعزّز من فكرة فرض حظر جوّيّ على مقاطعة عفرين، والتمهيد لتعاون روسيّ – أمريكيّ مع قوّات قسد في إطلاق حملة تحرير ما تبقّى من سوريّا من الإرهاب.
لا يمكن عزل عفرين عن محيطها الوطنيّ السّوريّ
لا يمكن البتّة الفصل بين تحرير عفرين وبين مناطق أخرى من سوريّا وعزلها عن إطارها الوطنيّ السّوريّ العام بكلّ الأحوال، إن كان في المجال السياسيّ أو العسكريّ والدبلوماسيّ، ما يطرح مسألة تضافر الجهود في سبيل بدء حملة لتحرير مناطق الشهباء المحتلّة وكذلك إدلب وعفرين، حيث يهدّد الاحتلال التركيّ بورقة الإرهاب التي استحوذ عليها وقوّى عضُدَها في جزء من الشّمال السّوريّ.
توجد قناعة راسخة لدى الكرد وشركائهم في الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة، أنّ أمريكا لن تُقدِم على فتح مواجهة عسكريّة مفتوحة مع حليفها في الناتو تركيّا مطلقاً، ولكنّها في ذات الوقت لديها كافة الوسائل للضغط عليها وإجبارها على سحب قوّاتها وإنهاء تواجدها في المناطق التي احتلّتها في شمال سوريّا، وتالياً تدع مَهَمّة تصفية قوى الإرهاب التي ترعاها تركيّا إلى قوّات سوريّا الديمقراطيّة. وفي يد أمريكا كافة أوراق الضغط والمبرّرات، من تحريك لملفّ الأزمة السياسيّة المتفاقمة داخل تركيّا، والتهديد بالأزمة الاقتصاديّة التي تعصف بها، وإمكانيّة استغلال أجواء الاحتقان الداخليّ في ممارسة شتّى أنواع الضغوط عليها.
انعكاس نتائج القمّة الأمريكيّة – الكوريّة على سوريّا
إنّ نتائج القمّة الأمريكيّة – الكوريّة، أثّرت بشكل مباشر على نوعيّة التحالفات والاصطفافات في منطقة الشرق الأوسط وسوريّا بشكل خاص، والدّور الرّوسيّ في تهيئة الأجواء لعقد القمّة بين رئيسي الدولتين، أتاح المجال أمام تعاون روسيّ – أمريكيّ في سوريّا أيضاً، تجلّى في عدّة ملفّات، جنوب سوريّا، إدلب، إعادة تفعيل الحوار بين النظام السّوريّ والكرد، ونعتقد أنّ قضيّة عفرين أيضاً تقع ضمن الترتيبات التي تمّ النقاش حولها، ووصلتا إلى تفاهمات أوّليّة للبدء بعمليّة عسكريّة لإخراج قوّات الاحتلال التركيّ منها، ما يعزّز فكرة الاستعداد لها لتكون تحت قيادة قوّات سوريّا الديمقراطيّة، وبحسابات مختلفة عن ذي قبل وحسّاسة أيضاً.
معادلة “شرق الفرات وغربه” فقدت مفاعيلها
كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ تحرير عفرين من الاحتلال التركيّ لم يعد خارج دائرة اهتمام أمريكا وقوّات التحالف الدّوليّ، وأنّ معادلة “شرق وغرب الفرات” قد فقدت مفاعيلها على أرض الواقع، حيث ادّعت في البداية أنّ المنطقة الأخيرة “خارج دائرة اهتماماتها ومسؤوليّاتها”، بل تبيّن، وبالدليل القاطع، أنّه لا يمكن الفصل بين أمن غرب الفرات وشرقه، مادام هناك تواجد تركيّ يرعى المرتزقة والإرهاب على الأراضي السّوريّة، وأمريكا ومعها قوّات التحالف مدعوّة لاتّخاذ موقف حاسم لتحرير تلك المناطق من ربقة الإرهاب، فلا معنى لتحرير شرق الفرات وحتّى دير الزور، إن كان مصدر الإرهاب المناطق التي تحتلّها تركيّا والتي تشكّل هاجساً يقلق أمريكا وكذلك روسيّا.
مخاوف كرديّة مشروعة
المخاوف الكرديّة حول “الغدر الأمريكيّ” بهم كما فعلت روسيّا، مشروعة، ولها ما يبرّرها، لكن معادلات القوّة ومساحات السيطرة على الأرض أيضاً لها حساباتها، وتشكّل مفصلاً مهمّاً لبناء العلاقات والتحالفات. في تجربة عفرين، كانت قوّات سوريّا الديمقراطيّة ومعها وحدات حماية الشعب والإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة أمام امتحان صعب للغاية، حيث وضعوا أمام خِيار وحيد فقط؛ الاستسلام، ولكنّها رفضت وقاومت حتّى اللحظة الأخيرة، وعندما أدركت أنّ مؤامرة كبرى تدور حول تصفية وجودها ووجود الكرد في عفرين؛ اتّخذت القرار “الصعب والسليم”؛ الانسحاب تفادياً لمزيد من الخسائر في الأرواح، وهو قرار حكيم، ولا يعبّر البتّة عن “هزيمة”، بل كما هو معروف أنّ خسارة معركة لا يعني مطلقاً خسارة الحرب، على قاعدة أنّ “الحرب صولات وجولات”.
نشاط دبلوماسيّ مكثّف
أمريكا وروسيّا مرغمتان على طمأنة الكرد ومكوّنات شمال سوريّا من التهديد التركيّ، وستظلّ قضيّة تحرير المناطق المحتلّة من قبل تركيّا الورقة الضاغطة على الرّوس والأمريكان من قبل الكرد وشركائهم، وهي مرتبطة بشكل مباشر بأمن واستقرار المناطق التي تدّعي كلّ منهما أنّهما أعادتا إليها الأمن وحرّرتها من الإرهاب، ويجب ألا نستهين بالضغوط التي تمارسها دبلوماسيّة الإدارة الذاتيّة في روج آفا في سبيل تحرير عفرين وكافة المناطق في شمال سوريّا، والمشاورات والنقاشات التي دارت في الفترة الأخيرة بينها وبين أطراف عدّة، وصرّح عنها الرئيس المشترك لحركة المجتمع الديمقراطيّ آلدار خليل – فرض حظر جوّيّ وصدور قرار من مجلس الأمن يؤكد على احتلال تركيّا لعفرين – مبشّرة وتصبّ في ذات الاتّجاه، وتبدّد تلك المخاوف نوعاً ما، رغم أنّ موضوع تحرير عفرين غير قابل للمفاضلة والمغامرة.