بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد
كثُرت في الآونة الأخيرة التكهّنات والتحليلات، حول مصير مقاطعتي عفرين والشهباء وما يتربّص بهما من تهديدات تركيّا ومرتزقتها، وكذلك مستقبل التواجد الروسيّ فيهما، والدور الذي يلعبه الروس في المشهد السّوريّ عموماً، وانعكاس علاقة روسيّا بتركيّا على عفرين والشهباء، ومآلات الحلول التي يحاول الروس تسويقها في منطقة غرب الفرات بالتعاون مع حلفائه؛ النظام وإيران وإلى حدّ ما تركيّا، وارتباطها بمعركة تحرير الرّقّة.
حضور روسيّ قويّ وغياب أمريكيّ
جليّ أنّ روسيّا ومنذ بداية تدخّلها المباشر في الأزمة السّوريّة في أيلول 2015 وسمّي حينها بـ”عاصفة السوخوي”، غيّرت من معادلات التوازن العسكريّ على السّاحة السّوريّة، وأعادت الأنفاس إلى النظام المتهالك الذي كان على وشك السقوط، خاصّة بعد خسارته إدلب وقسم كبير من غوطة دمشق، وحينها بدأت فصائل المعارضة تدقّ أبوابَ دمشق، وبقوّة.
استلام روسيّا زمام المبادرة في سوريّا، وغياب الدور الأمريكيّ لانشغاله بحملة الانتخابات الرئاسيّة، منحها المزيد من النشاط والحيويّة، لتنخرط في مشاريع أقلّ ما يُقال عنها بأنّ جوهرها؛ تصفية فصائل المعارضة السّوريّة المسلّحة وخاصّة المتطرّفة والإرهابيّة منها، ومن ثمّ انتقلت لتفرض معادلاتها السياسيّة، عبر ليّ ذراع العديد من القوى الإقليميّة والدولية الداعمة للمعارضة، وعلى رأسها تركيّا.
اجتماعات أستانه التي هَنْدَسَ لها الرّوس وأعدّوا إخراجها بدقّة ودهاء، تمكّنت إلى حدّ كبير من التأثير على العديد من الفصائل المسلّحة لتقبل بما يسمّى بـ”المصالحة الوطنيّة” التي يفرضها النظام في مناطق مختلفة من سوريّا، والتي جوهرها الاستسلام وإعلان التوبة له.
حقّقت السياسة الروسيّة في سوريّا نجاحات ملفتة للنظر لتوفّر عدّة عوامل وليس فقط قوّتها العسكريّة الضاربة والتي انفردت بها في السماء والأرض السّوريّة، وأوّلها الخضوع التركيّ شبه المطلق لسياساتها وتسييرها وفق مشيئتها، واستخدامها ورقة قويّة في تدجين فصائل المعارضة، حيث لتركيّا تأثير مباشر عليها، وتسليم مدينة حلب للنظام كانت إحدى أكبر الصفقات التي عقدها الرّوس مع تركيّا، والتي كانت مكافأتها منحها الضوء الأخضر في احتلال مناطق من مقاطعة الشهباء، جرابلس والباب وإعزاز.
سقوط القذائف على عفرين بالتزامن مع انتشار القوّات الروسيّة، ليس صدفة
تركيّا، من خلال تهديداتها المباشرة باحتلال مقاطعتي عفرين والشهباء، والقصف المتواصل على بلداتها وقراها، تستند في ذلك إلى شبه تفويض روسيّ، للقيام باستفزازات واستنزاف الطاقة العسكريّة في المقاطعتين، والتي يتناغم وينساق معها النظام السّوريّ معها إلى حدّ كبير، وهي في جوهرها ترمي إلى محاصرة عفرين والشهباء والضغط عليهما للقبول بالإملاءات الروسيّة، وحال الرفض؛ فإنّ “تركيّا جاهزة لاقتحام مناطقكم”، حسب مسؤول روسيّ في سوريّا. أي أنّ روسيّا تمارس سياسة العصا والجزرة مع الجانب الكرديّ، وسقوط القذائف على عفرين في ذات اليوم الذي انتشرت فيه القوّات الروسيّة على الحدود الفاصلة بين مناطق تمركز القوّات الثوريّة في مناطق الشهباء المحرّرة ومناطق مرتزقة تركيّا من درع الفرات، وبعد فشل المفاوضات الروسيّة – الكرديّة في اليوم ذاته؛ إنّما مؤشّر قويّ على أنّ روسيّا تلعب سياسة ذات وجهين، هدفها توجيه رسالة تهديد إلى الجانب الكرديّ لإرضاء تركيّا والنظام، وكذلك قطع الطريق على قوّات سوريّا الديمقراطيّة ومنعها من الوصول إلى البحر وتحرير إدلب من مرتزقة جبهة النصرة.
تفاءل الناس خيراً عند انتشار القوّات الروسيّة في عفرين والشهباء، على أنّها ستلعب دوراً في صدّ تركيّا من ارتكاب حماقات بدء عمليّة عسكريّة واسعة، لكن من خلال الوقائع تبين أنّ روسيّا “شريكة” تركيّا في قصفها على عفرين بشكل أو بآخر، وتحاول لعب الدور المثبّط للقوى الثوريّة عبر تحجيمها، لتعيش مرحلة اللا حرب واللا سلم، والتي تعتبر قاتلة بالنسبة لأيّ قوّة عسكريّة ثوريّة تسعى لتحرير أراضيها من الاحتلال والإرهاب. وتصريح القائد العام لوحدات حماية الشعب سيبان حمو قبل أيّام، بأنّه “يتوجّب على روسيّا توضيح موقفها حيال الاستهدافات التركيّة المستمرّة على مقاطعتي عفرين والشهباء، وإلا فإنّنا سنتّخذ الموقف المناسب والذي يتلاءم والعدوان التركيّ المستمرّ على مناطقنا”، فيه إشارة قويّة على الدور الضبابيّ لروسيّا في المنطقة وانحيازها للموقف التركيّ.
الهجوم على عفرين والشهباء؛ لن يتمّ إلا بتفويض روسيّ
أعتقد أنّ تركيّا لن تجرؤ على القيام بأيّ مغامرة في شنّ عدوان على عفرين إن لم تحصل على تفويض روسيّ، ومن ورائها النظام وإيران، والاتّفاقات التي حصلت في الآونة الأخيرة بين الدول الثلاث، تركيّا، روسيّا وإيران في العاصمة التركيّة أنقرة غداة زيارة رئيس أركان الجيش الإيرانيّ لتركيّا، يتمّ ترجمتها على الأرض عبر صمتٍ روسيّ مطبِق حيال الاعتداءات التركيّة اليوميّة على مناطق عفرين والشهباء، وهي في جانب آخر تمثّل تناقضاً صارخاً لأهداف عمليّة انتشار القوّة العسكريّة الروسيّة في عفرين والشهباء، حيث أعلن مسؤولون روس أنّ الغاية من انتشار شرطتهم العسكريّة في هذه المناطق إدخال ما سمّته ” المناطق الكرديّة ضمن مناطق خفض التوتّر”، وعلى العكس رأينا عودة للتوتّر والقصف العشوائيّ من جانب قوّات الاحتلال التركيّ ومرتزقتها.
تعزيز قوّات الاحتلال التركيّ
وفي مقارنة بين التواجد الروسيّ والأمريكيّ في شمال سوريّا وروج آفا، وفي أكثر من محطّة، يتبيّن أنّه هناك حرصٌ أمريكيٌّ أكثر في الحفاظ على تعهدّاتها بحماية حلفائها من هجمات تركيّة غادرة، وهو ما تبيّن أكثر إثر استهداف الطائرات التركيّة مقرّ وحدات حماية الشعب في كراتشوك، حيث انتشرت بعده القوّات الأمريكيّة على طول الحدود مع باكور كردستان، وكذلك في منبج، رغم أنّ انتشار القوّات الروسيّة في منبج أوصل رسالة مفادها أنّها تمهّد لعودة قوّات النظام، وهو ما رفضته كلّ من قوّات سوريّا الديمقراطيّة وقوّات التحالف.
هذه الحقائق – وإلى الآن – تؤكّد أنّ روسيّا تتنصّل من كافة التعهدّات التي قطعتها مع الجانب الكرديّ، وتلغي مبرّرات تواجدها في عفرين والشهباء، وتميل إلى تعزيز دور الاحتلال التركيّ في سوريّا، وهو ما يجب على القيادتين العسكريّة والسياسيّة في روج آفا وشمال سوريّا أن تتنبّه له وتأخذه بالحسبان.
“تحرير مناطق الشهباء دون الرجوع لروسيّا”
استمرار هجمات الاحتلال التركيّ على عفرين والشهباء، وإثر استهداف مدينة عفرين بالصواريخ التي انطلقت على مقربةٍ من انتشار القوّات الروسيّة وغداة عيد الأضحى، دفع بقيادة وحدات حماية الشعب إلى إعلان موقفها بشكل واضح، بأنّها ستبدأ بحملة تحرير إعزاز وكامل مناطق الشهباء التي تحتلّها تركيّا، دون الرجوع والتشاور مع روسيّا، وذلك إن استمرّ القصف والتهديد التركيّ، وهو ما سيعيد الأوضاع إلى المربّع صفر، ويُنذر بمعركة ستقلب كافة الحسابات الروسيّة والتركيّة رأساً على عقب.
يُفهم ومن خلال السياقات التي كُشِفَتْ حتّى الآن، أنّ هناك تقاسمٌ للنفوذ بين كلّ من أمريكا وروسيّا في سوريّا، ولكن هذا لا يلغي التنافس المحموم بين القوّتين في انتزاع مناطق نفوذ جديدة لصالحها، فإن سَلِمنا بأنّ غربيّ الفرات عائد لمنطقة النفوذ الروسيّة، فإنّه من واجباتها الأخلاقيّة توفير الحماية الكاملة لها، وهي في أفضل الأحوال لن تستطيع الوقوف أمام زخم التطوّرات والانتصارات التي تحقّقها كلّ من وحدات حماية الشعب وقوّات سوريّا الديمقراطيّة، إن كانت في جبهات الرّقّة أو غيرها من المناطق الأخرى في سوريّا. فإن كانت روسيّا تسعى إلى لعب دور إيجابيّ في الأزمة السّوريّة، فالأولى بها أن تُلجم تركيّا من التدخّل في شؤون سوريّا، ولتترك السّوريين ليقرّروا مصيرهم بأنفسهم.
المفاضلة بين المصالح ودماء السّوريين
لعبة المصالح في السّاحة السّوريّة قد وصلت إلى طريق مسدود، خاصّة مع الجانب الكرديّ، والصفقات الاقتصاديّة والتجاريّة التي عقدتها روسيّا مع تركيّا، لن تُقايض بدماء السّوريين التي تهدرها تركيّا يوميّاً من خلال ممارساتها الوحشيّة في مقاطعة الشهباء، وستُبقي الأزمة متفاقمة ومشتعلة، فهي – أي تركيّا – عنصر لا استقرار، ودورها ومنذ بداية الأزمة كان على هذا المنوال ومازال. فلا صفقات صواريخ (إس 400) والتبادل التجاريّ بينهما، قادر على وقف المشروع الفيدراليّ في شمال سوريّا، وإن كانت روسيّا تعتقد بأنّها تفاضل بين الاحتلال التركيّ وفيدراليّة شمال سوريّا كأيّ صفقة تجاريّة، وفي تجرّد من كافة أخلاقيّاتها ومبادئها، فإنّها تكون قد وقعت في الفخّ التركيّ، وعليها أن تضع هذه الحقيقة القائمة والمتجسّدة على الأرض نُصب عينيها في رسم سياساتها في سوريّا، وإلا فإنّها ستغدو الخاسر الأكبر أسوةً بتركيّا في السّاحة السّوريّة.
الرهانات التركيّة على احتلال عفرين والشهباء، تبقى أوهاماً في المخيّلة العثمانيّة لأردوغان، وفي حال إقدامه على ارتكاب هكذا حماقة؛ فإنّها ستنقلب وبالاً عليه وعلى كلّ من يسانده في الوقوع في مستنقع روج آفا وشمال سوريّا بحيث يصعُب الخروج منه بسهولة، وعلى روسيّا – وباعتبارها قوّة عظمى وفاعلة في الأزمة السّوريّة – أن تدرك جيّداً أنّه بات مفروضاً عليها النأي بنفسها عن سياستها الازدواجيّة في الكيل بمكيالين، وأن تتّخذ موقفاً واضحاً حيال النوايا التركيّة في احتلال أجزاء أخرى من الأراضي السّوريّة، إن كانت حريصة على سوريّا ومستقبلها.
الرهان على مقاومة روج آفا وشمال سوريّا
يبقى الرهان على صمود ومقاومة وحدات حماية الشعب والقوّات الحليفة لها في صدّ أيّ عدوانٍ محتملٍ على عفرين والشهباء، ولقد أثبتت التجارب القريبة أنّ شعوب ومكوّنات روج آفا وشمال سوريّا لا تعوّل سوى على قوّاتها، فإن كانت الحرب هي استمرار للسياسة وبوسائل أكثر حنكة ودهاء؛ فإنّ مقاومة روج آفا وفي كافة محطّاتها رسمت وقائعَ جديدة لا يمكن تجاوزها، بل هي حاضرة في جميع النقاشات التي تدور حول سوريّا، وبين كافة الأطراف، وحلّ الأزمة السّوريّة وعودة الاستقرار إليها مرهونٌ بمدى حضور تلك القوّة النقاشات الدائرة حول تحديد مصيرها.
فبعد التحوّلات والتبدّلات التي طرأت على المشهد العسكريّ والسياسيّ في سوريّا، بات واضحاً أنّ قوّتين اثنتين تلعبان الدور الرئيسيّ لتحديد مستقبل سوريّا، قوّات النظام ومن ورائها روسيّا وإيران وحلفائهما، والقوّة الثانية قوّات سوريّا الديمقراطية ممثّلة بمجلس سوريّا الديمقراطيّة وحلفائها من قوّات التحالف الدوليّ، حيث أنّ نهاية مرتزقة داعش في الرّقّة ومن ثمّ في دير الزور، وكذلك حملة تحرير إدلب، باتت مرتقبة، حينها ستكون الحرب قد وضعت أوزارها جانباً، وستُفتح معارك سياسيّة لا تقلّ قوّة وخطورة عن العسكريّة، حيث الكلّ يسعى للاستحواز على حصّة الأسد من الكعكة السّوريّة، والكرد ومعهم كافة مكوّنات روج آفا وشمال سوريّا، سيضعون وبقوّة أوراق انتصاراتهم على الطاولة، وروسيّا مضطّرة لأن تساند هذا المشروع، على قاعدة أنّ الكلّ يميل للوقوف مع القويّ المنتصر.