بقلم الكاتب السياسيّ والإعلاميّ: جميل رشيد
يشكّل الصراع على دير الزور في المرحلة الراهنة، النقطة التي سينطلق منها الصراع على سوريّا وفي سوريّا ومن نوع آخر وبسمات مختلفة عمّا سبقها طيلة السنوات السبع من الأزمة السّوريّة، والذي بدأ يستحوذ على اهتمام كافة الأطراف والقوى المتصارعة على السّاحة السّوريّة.
الرهانات على دير الزور
يعتقد البعض أنّ أهميّة دير الزور تأتي من خلال موقعها الجيوبوليتيكيّ فقط ، باعتبارها خزّان النفط والغاز السّوريّ الاستراتيجي، وأنّ موقعها الذي يربط بين سوريّا والعراق وكذلك اتّصالها مع الأردن، حيث تمثّل العمق الجغرافيّ لكلا الطرفين السّوريّ والعراقيّ، يمنحها لأن تحتلّ الصدارة في استراتيجيات الأطراف المتصارعة، متجاهلين أنّها المنطقة الوحيدة تقريباً المتبقّية تحت سيطرة تنظيم داعش.
لكلّ حساباته ورهاناته على دير الزور، ولا يُخفى على أحد أنّ النظام وحلفاؤه (إيران وروسيّا) تحرّكهم شهيّتهم إلى آبار النفط وفتح كريدور بين العراق وسوريّا من خلال بوّابة دير الزور، متسلّحين بـ”فرض شرعيّة الدولة” عليها، فزجّت بخيرة قوّاتها في المعركة، لكسب نصر عاجل وإعادة الهيبة لقوّاته وتثبيت قدمها في الشرق السّوريّ، للزحف شمالاً وغرباً لتحقق التكامل مع الهلال الإيرانيّ الشيعيّ الذي تستميت إيران في وصله، ومهما كانت الأكلاف. ولا يمكن تصوّر المعركة التي يخوضها النظام في دير الزور بأنّها ذات دوافع وطنيّة هدفها تحرير الأرض السّوريّة من الإرهاب فقط، وعزلها عن مصالح كلّ من إيران وروسيّا في سوريّا، هذه الرؤية التي تجّلت في أكثر من مكان وزمان، في الأمس القريب شاهد العالم أجمع كيف توافق مع مرتزقة داعش على الحدود اللبنانيّة السّوريّة، في حين ذرفت إيران دموع التماسيح على القافلة التي تاهت في عرض الصحراء، بعد أن استهدفها طيران التحالف الدوليّ، وادّعت بأنّهم بحاجة إلى مساعدات “إنسانيّة”.
النظام وانتصاراته الوهميّة
الانتصارات المحدودة والوهميّة التي سجّلتها قوّات النظام في دير الزور، والتي نفخ فيها إعلامه، لم تكن سوى لعبة أرادت لها كلّ من روسيّا وإيران في سبيل الضغط على قوّات سوريّا الديمقراطيّة والتحالف الدوليّ لقبول معادلة “الفيفتي فيفتي” في حصّتها من ثروات دير الزور، وفق تصوّراتهم، والتعكير على حملة “عاصفة الجزيرة” التي تقودها “قسد” في تحرير ما تبقّى من مناطق الجزيرة وشرقي دير الزور تحريراً ناجزاً من الإرهاب، ولا تكون كالمسرحيّات الاستعراضيّة للنظام وحلفائه، حيث يُخرجون منها داعش وما يلبث أن يعود إليها في صبيحة اليوم الثاني، فيما كافة المناطق التي حرّرتها “قسد” من المرتزقة، لم يتمكّن استرجاع ولو قرية واحدة منها، ومن هنا يمكن فهم مصداقيّة “قسد” وجدّيتها في حربها ضدّ الإرهاب، والتي لا يضاهيها فيها أحد.
الاستدارة التي حقّقها مرتزقة داعش باتّجاه قوّات النظام، فسّرها بعض السذّج بأنّ قوّات سوريّا الديمقراطيّة هي من فتحت لها الطريق، ولكن الحقيقة التي أثبتت صحّتها أكثر من مرّة في الأزمة السّوريّة، هي أنّ قوّات النظام وحتّى مع حلفائها الإيرانيين غير قادرة على مواجهة مرتزقة داعش بمفردها دون تدخّل من الطيران الروسيّ، فانشغال الروس في معارك إدلب وريف حماة، استغلّه التنظيم الإرهابيّ، وأعدّ لحملة قويّة ضدّ قوّات النظام، استطاع خلال فترة وجيزة استعادة السيطرة على بلدات “الشولا والقريتين” ومحاصرة “السخنه” ليقترب مرّة ثانية من مدينة تدمر.
ما السرّ وراء قصف روسيّا قوّات “قسد” في معمل “كونيكو”..؟
الخطوط الحمراء التي وضعتها روسيّا أمام قوّات سوريّا الديمقراطيّة، وقصفها لمعمل “كونيكو” للغاز شرقيّ نهر الفرات، بالتزامن مع عبور قوّات النظام للضفّة الشرقيّة لنهر الفرات، لم تتكلّل بالنجاح، وجاءت عكس التصوّرات الروسيّة، ففي حين ادّعت روسيّا أنّها اتّفقت مع أمريكا على تحديد الجغرافيّة التي تعمل فيها قوّات النظام، إلا أنّها هي بالذات من خرقت ذلك الاتّفاق، عبر قصفها، ولمرّتين خلال 24 ساعة لمواقع “قسد” محاولة بذلك عرقلة تقدّمها، والحيلولة دون وصولها إلى الحدود العراقيّة السّوريّة وتحرير ما تبقّى من مدن وبلدات شرقيّ الفرات، وكأنّها في ذلك تمدّ طوق النجاة لمرتزقة داعش. رغم ذلك واصلت حملة “عاصفة الجزيرة” تقدّمها وتمكّنت من تحرير بلدة الصور الاستراتيجية وحقل غاز الجفرة، في حين تراجعت قوّات النظام إلى المواقع الخلفيّة، بعد أن شرّدت أهالي المنطقة ونهبت منازلهم.
تهديدات النظام لـ”قسد” وتعويل البعض عليها
معركة تحرير الرّقّة التي وصلت إلى نهايتها، لا يمكن البتّة الفصل بينها وبين حملة “عاصفة الجزيرة”، والتواصل الجغرافيّ بين المدينتين، يجعلهما أمام مخاطر مشتركة، فلا يمكن القول إنّ الرّقّة تحرّرت إن لم تحرّر خاصرتها الجنوبيّة من الإرهاب، وستبقى عرضة للهجمات وعدم الاستقرار إن لم يتمّ تأمين وتحرير هذه الخاصرة، وقوّات النظام، وبكلّ عتادها وعديدها غير قادرة على حمايتها، فهي سهلة الاختراق والتشتّت أمام هجمة بسيطة لمرتزقة داعش.
وحسب الوقائع العسكريّة الميدانيّة في دير الزور، وبعد استهداف طيران النظام والروس لقوّات سوريّا الديمقراطيّة، يُفهم أنّ النظام والروس يحاولون تطويق قوّات “قسد” في الرّقّة، وتهديدها إن أمكن، غير آبهين بالخطر الذي سيبلعهم إن تمدّد داعش في المنطقة مرّة أخرى.
والعديد من الأطراف التي تحاول الاصطياد في المياه العكرة، تتأمّل اندلاع صراع بين قوّات سوريّا الديمقراطيّة وقوّات النظام، ومنها تركيّا وإيران، كما أنّ جهات عدّة في أوساط النظام تروّج أنّ “معركتها القادمة ستكون مع الكرد وقوّات قسد” مهدّدة بالعصا الغليظة، غير مكترثة لما تحقّقه قسد في دحر الإرهاب واستئصاله في الجغرافيا السّوريّة.
روسيّا وسياسة “نشر الحرائق”
غير أنّ الاستراتيجية التي اعتمدتها قسد وقوّات التحالف منذ بداية حربها ضدّ الإرهاب، سارت على خطا ثابتة، ولم تتأثّر بالدعايات المغرضة التي يروّج لها النظام وحلفاؤه، وحرب التصريحات المتبادلة بين كلّ من روسيّا وأمريكا، لم تعكس صورة الصراع على دير الزور، وكلّ اليقين أنّ هناك تفاهمات بينهما تحت الطاولة وفي الغرف المغلقة، غير أنّ هذا لا يعني أنّ التنافس بينهما غير موجود، وهي في إحدى جزئيّاتها تتعلّق باندلاع الصراع في إدلب، حيث روسيّا لوحدها غير قادرة على إدارة الحرب في إدلب ضدّ جبهة النصرة وحلفائها، دون تعاونٍ أمريكيّ، فخلال معارك اسبوع واحد، مُنِيت قوّات النظام وكذلك الروس بخسائر كبيرة إن كان في إدلب أو في ريف حماة وبادية تدمر المتّصلة مع دير الزور، حيث قطع مرتزقة داعش طريق دمشق – دير الزور ثانية، مما يعني قطع طرق الإمداد عن قوّات النظام، وفتح أكثر من جبهة ضدّها.
الإصرار الروسيّ في تثبيت قدم لها في دير الزور، قابله سعي أمريكيّ حثيث في التوغّل أكثر في عمق ريفها، والتكتيك الأمريكي المتّبع في سوريّا، يأخذ شكل تنفيذ الخطوة الأولى ومن ثمّ الانتقال إلى التي تليها، بينما اعتمدت روسيّا سياسة نشر الحرائق على طول الجغرافيا السّوريّة، وفتح عدّة جبهات دفعة واحدة، مما أفقدها القدرة على إنهائها، وانقلبت في بعض منها على الضدّ منها، بينما حقّقت بعض النجاحات المحدودة عبر أسلوب “المصالحات” في عدّة مناطق. وتعاني السياسة الروسيّة تخطبّاً وتفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية في الكثير من مفاصلها، وأعتقد أن قصفها لمواقع قوّات سوريّا الديمقراطيّة في الآونة الأخيرة، هي جزء من سياستها الرامية إلى إحداث شرخ في تحالف أمريكا وقوّات “قسد”، محاولة بذلك ضمّها إلى تحالفها الذي لم يقدّم للكرد ولكافة المكوّنات المشاركة أيّ ضمانات سياسيّة أو عسكريّة.
تناغم روسيّ مع تصريحات المعلّم
التناغم الأخير بين تصريح وزير خارجيّة النظام وليد المعلّم، وتصريح الخارجيّة الروسيّة حول نيّتها التفاوض مع الكرد على شكلٍ من الإدارة الذاتيّة بعد الانتهاء من معركتها ضدّ الإرهاب، ما هو إلا لذرّ الرماد في العيون، بعد أن أطلق قطار الفيدراليّة في الشمال السّوريّ، ونحن على ثقة بأنّ كافة المناطق المحرّرة من الإرهاب والتي ستتحرّر لاحقاً ستنضمّ إليها، لتغدو المشروع السياسيّ الوحيد الذي يعوّل عليه السوريون، وبذلك لا معنى لتصريحات المعلّم أمام زخم المدّ الفيدراليّ.
تركيّا وسياسة “المقايضات”
إنّ روسيّا تفقد مصداقيّتها في السّاحة السّوريّة من خلال تعاونها الوثيق مع تركيّا والتنسيق عالي المستوى معها في إدلب، وهي تنعكس سلباً على دورها كقوّة عظمى، فتركيّا حليف لا يمكن الوثوق به، كونها تناور وتعزف على أكثر من وتر، وتحاول استثمار الدور الروسيّ لتعزيز دورها في سوريّا، لتحاول إقناع روسيّا بإنشاء “مناطق آمنة” في إدلب على غرار “المناطق الآمنة” التي أقامتها في احتلالها لمناطق جرابلس وإعزاز و الباب.
المعادلة الراهنة في دير الزور مرتبطة بشكل مباشر بالتطوّرات في السّاحة السّوريّة ككلّ وعلى رأسها معركة الرّقّة، واللعبة التركيّة – الروسيّة للتأثير على حملة “عاصفة الجزيرة” عبر ليّ ذراع وحدات حماية الشعب في عفرين، عبر تهديدها من حليفها التركيّ، لن تنفعهما، وعلى روسيّا أن تقتنع جيّداً أنّ عفرين ليست حلب أو إدلب لكي تقبل بالإملاءات التركيّة وكذلك النظام، أو يمكن مقايضتها بإدلب.
دير الزور ستكتب الفصل الأخير في المعركة الفاصلة بين الإرهاب وقوّات سوريّا الديمقراطيّة، فيما قوات النظام لم ولن تحقّق سوى المزيد من الانكسارات المتتالية.