بقلم الكاتب السياسيّ والإعلامي: جميل رشيد
يشهد شهر تشرين الثاني انعقاد ثلاث مؤتمرات لحلّ الأزمة السّوريّة، أستانه، حميميم وجنيف، ومجرّد إلقاء نظرة سريعة على تزامن عقدها مع بعضها في فترات متقاربة، يتبيّن للمرء حجم الهوّة الكبيرة التي تفصل بينها، وكذلك السباق المحموم من قبل الأطراف الراعية للمؤتمرات في تقاسم الكعكة السّوريّة للاستحواز بحصّة الأسد منها. فكلّ طرف خارجيّ فاعل في الأزمة السّوريّة يسعى لعقد مؤتمر خاصّ به، ليمليَ بعدها نتائجه على الآخرين، ولو تطلّب ذلك استخدام القوّة، ليعتبر نفسه أنّه “الشرعيّ ويمثّل “مصالح السّوريين”، ولينزع الشرعيّة عن غيره.
هيمنة اللاعبين على مؤتمرات المعارضة السّوريّة
إنّ تشابك خيوط الأزمة السّوريّة، يصعب على طرف واحد بمفرده فكّها وحلّها، ويطرح مسألة إشراك كافة الأطراف في معادلة الحلّ النهائيّة أمراً لا مناصّ منه، ما يتطلّب جهوداً وجَلَداً لا يقلّ عن الجهود التي بذلتها تلك الأطراف في تأجيج نار الصراع وإيصال البلاد إلى هذه المرحلة المدمّرة. وكلّ دعوة، ولأيّ مؤتمر كان، تستثني المكوّنات (السياسيّة، الدينيّة، الاجتماعيّة، الثقافيّة…الخ) لن يُكتبَ له النجاح، بل سيضيف حلقة أخرى إلى سلسلة الإخفاقات في انعدام الثقة وعدم بلورة رؤية سوريّة لحلّ أزمتها.
المؤتمرات التي عقدت في الفترات اللاحقة، لم تزد إلا شرخاً بين قوى المعارضة السّوريّة، التي جنحت كلّ قوّة فيها للعمل لصالح أجندات دول معيّنة، لتفرض رؤيتها البعيدة عن تطلّعات الشعب السّوريّ وآماله، فسلسلة مؤتمرات جنيف التي عقدت إلى الآن، كرّست لحالة الإحباط لدى المواطن السّوريّ الذي يتطلّع بفارغ الصبر إلى إنهاء محنة بلده، وبأيّ شكل كان، لينعم فيه بالأمن والاستقرار. فالانتقائيّة التي فرضها ما يسمّى بالإئتلاف السّوريّ – الذي تهيمن عليه جماعة الإخوان المسلمين المدعومة من تركيّا – في اختيار الوفد وإقصاء أطراف فاعلة على الأرض وفي الداخل السّوريّ وخاصّة الكرد ومعهم مكوّنات شمال سوريّا، حكم على كافة المؤتمرات بأن تراوح مكانها، وتنتج الفشل تلو الفشل. ولم تخرج الجنيفات السبعة عن إطار السعي وراء فرض توافقات بين النظام والمعارضة المتمثّلة بالإئتلاف حول تقسيم السلطة فيما بينهما.
عودة أمريكيّة للمسار السياسيّ؛ بعد أن فرغت من محاربة داعش
يتمّ الحديث الآن عن جولة ثامنة من المفاوضات أواخر شهر تشرين الثاني، فإن لم تحدث تغيّرات جوهريّة في بنية الوفد المفاوض، عبر إشراك كافة الأطراف وخاصّة الفاعلة على الأرض، لتدخل قاعة التفاوض دون شروط مسبّقة، وبرعاية دوليّة وأمميّة نزيهة؛ فإنّها ستعيد الأزمة إلى المربّع الأول، ولتبدأ بعدها دورة العنف ولتحصد أرواح الآلاف من المدنيين.
التأكيدات الأمريكيّة في أنّ حضورها في هذه الجولة سيكون “فاعلاً”، وليس كمراقب، وإصرارها على إشراك كافة الأطراف بما فيها الكرد وكافة المكوّنات المشاركة معها في مشروع فيدراليّة شمال سوريّا، ربّما يحمل إشارات إيجابيّة للدخول الفعليّ في مفاوضات جادّة، ويضع المفاوضات في مسارها الصحيح.
“الأستانات” أقرب إلى “الصفقات” منها إلى اجتماعات للحلّ
في الطرف الآخر، رسمت اجتماعات أستانه مساراً آخر في الأزمة السّوريّة، تمثّل في تكريس “التوافقات” على الأرض ما بين الفصائل العسكريّة والنظام، حيث حاولت روسيّا تركيز جهودها في إنجاح هذه الاجتماعات في فرض وقائع جديدة بعيدة عن رؤية المجتمع الدوليّ بما فيها الأمم المتّحدة، وتدجين الفصائل التي لم تستطع ليَّ ذراعها في الحرب، وجرّها إلى مسار ما سمّي بـ”المصالحات”، بالاستفادة من دور كلّ من تركيّا وإيران في سوريّا، واستخدام نفوذهما في إقناع تلك الفصائل بالحلّ الروسيّ، وحصرها – أيّ الفصائل – في مناطق معيّنة تحت عنوان عريض ” مناطق خفض التوتّر أو التصعيد”. وهذا ما يؤكّد أنّ روسيّا بعيدة كلّ البعد عن طرح حلّ شامل أو رؤية مستقبليّة لسوريّا تشاركها فيها قوى وأطراف داخل سوريّا، فهي مرّرت كافة اجتماعات أستانه وكذلك المصالحات لتقوية نفوذ النظام، وبسط سيطرته على كافة المناطق التي فقدها.
مُخرَجات أستانه الأخير، جاءت بغياب الفصائل العسكريّة وكذلك النظام، وانحصرت بكلّ من روسيّا، تركيّا وإيران، والتي كانت أقرب إلى الـ(صفقة) منها إلى الحلّ، حيث أجازت كلّ من روسيّا وإيران لتركيّا بالتوغّل في محافظة إدلب، وأقلّ ما يُقال عن هذا التوغّل بأنّه “احتلال موصوف ومتكامل الأركان، حيث وصلت قوّات الجيش التركيّ إلى مداخل مدينة حلب في دوّار البلليرمون وحيي الزهراء والراشدين”. ولولا الدعم من الدولتين الأخريين الراعيتين للاجتماع، روسيّا وإيران لما تجرّأت بالدخول إلى إدلب وتهديد حلب مرّة أخرى. التناغم بين إيران وتركيّا في تقاسم الأدوار فيما بينهما بلجم الطموح الكرديّ في جنوب كردستان بالاستقلال، وكذلك عرقلة المشروع الفيدراليّ في شمال سوريّا، هو ما دفع إيران للقبول بالتدخّل التركيّ في إدلب، مقابل إطلاق يدها في جنوب كردستان. ورضوخ روسيّا للطلب التركيّ في السيطرة على إدلب ومحاصرة مقاطعة عفرين، يتقاطع مع رؤيتها في الضغط على مقاطعة عفرين؛ لفصم العلاقة بينها وبين قوّات التحالف الدوليّ لمحاربة داعش والذي تقوده أمريكا، لتقبل بنموذج الحلّ الروسيّ في سوريّا.
هل أوقعت روسيّا تركيّا في مستنقع إدلب لتغرق أكثر..؟؟
الأصوات الخافتة الصادرة من بعض المحلّلين والمعلّقين الروس، وكذلك بعض الجهات الرسميّة من النظام السّوريّ، بالقول “إنّ تركيّا تحتلّ جزءاً من الأراضي السّوريّة”، وأنّ ما أقدمت عليه، هو خارج “تفاهمات أستانه”، هي مجرّد ذرّ الرماد في العيون، وهو الخطأ الثاني الذي ترتكبه روسيّا في سوريّا بعد السماح لها باحتلال جرابلس والباب وإعزاز وربّما تدفع ثمنه غالياً. ولكن من الجهة الأخرى، روسيّا أوقعت تركيّا في مستنقع لربّما لا يمكنها الخروج منه بتلك السهولة، في حال شنّها هجوماً على مقاطعة عفرين.
روسيّا تدير بوصلتها نحو “حميميم”
المؤتمر الثالث الذي تروّج له كلّ من روسيّا والنظام في حميميم، والذي كان من المزمع عقده في 29/تشرين الأول/أكتوبر إلا أنّه تمّ تأجيله إلى العاشر من شهر تشرين الثاني لأسباب تقنيّة، هو الآخر يُرادُ له أن يجيّر لصالح روسيّا والنظام، فيما إذا لم تتدارك القوى المشاركة فيه تثبيت حضورها بشكل قويّ، وتطرح مشاريع حلّها للأزمة السّوريّة والتي بالتأكيد تتجاوز النظام ورؤيته، وربّما ذاك الحضور يغيّر من مسار ونتائج المؤتمر، وأهمّ القوى المعوّل عليها في إحداث نقلة نوعيّة وإيجابيّة باتّجاه حلّ الأزمة في حميميم هو مجلس سوريّا الديمقراطيّة وممثّلي فيدراليّة شمال سوريّا. وإطلاق الرئيس الروسيّ بوتين اسم “مؤتمر شعوب سوريّا” على مؤتمر حميميم، إنّما يعكس وجهة النظر الروسيّة المتمحورة حول قبولها “بسوريّا فيدراليّة” تابعة للمركز دمشق.
حسب المعلومات التي ترشّحت عن اللجنة التحضيريّة لمؤتمر حميميم، فإنّه سيتمّ توجيه الدعوة إلى عدّة أطراف في السّاحة السّوريّة، بما فيها الإئتلاف الذي رفض بداية الشعار الذي سينعقد تحته المؤتمر “مؤتمر شعوب سوريّا”، وأكّدت روسيّا أنّ الدعوة ستوجّه له أيضاً.
ضغوط تركيّة على الإئتلاف لحضور “حميميم”
والدعوة التركيّة العاجلة لأعضاء الإئتلاف لعقد اجتماع مع وزارة خارجيّتها، جاء للضغط عليه للقبول بالمشاركة في مؤتمر حميميم، وهو ما يؤشّر أنّ تركيّا تحاول أن تجري مصالحة بينها وبين النظام، ومن جهة أخرى تقطع الطريق على الكرد وفيدراليّة شمال سوريّا في الحضور، متناسية أنّ الحضور الكرديّ قد تعزّز أكثر فأكثر بعد تحرير الرّقّة وقسم كبير من دير الزور، وأنّ المشروع الفيدراليّ في شمال سوريّا سيكون حاضراً – وبقوّة على طاولة حميميم – وهي المسألة الأساسيّة التي ناقشها نائب وزير الخارجيّة الروسيّ ميخائيل بوغدانوف في قامشلو مع مسؤولي الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة والفيدراليّة، وتوصّلوا إلى جملة تفاهمات، منها أنّ سوريّا المستقبل هي فيدراليّة وليست مركزيّة.
يبدو أنّ روسيّا عَمَدت إلى إيجاد مسارِ ” أستانه” كبديلٍ عن جنيف، لكنّها اليوم غير متشجّعة كثيراً لـ”أستانه” أيضاً، بعد أن أدّت وظيفتها في الوصول إلى ما تمّ تسميته بـ”المناطق الآمنة”، والتي سمّتها في البداية “مناطق وقف الأعمال العدائيّة”، ثمّ “وقف إطلاق النار” وصولاً إلى “مناطق خفض التوتّر”، واليوم هي تعوّل على مؤتمر “حميميم” في إقناع كافة الأطراف رؤيتها للحلّ السّوريّ، عبر طرح الدستور الذي أعدّته للنقاش، فيما تختلف معها الكثير من المكوّنات السياسيّة في نظرتها وقبولها بذاك الدستور.
مقاربة “سلطويّة” للنظام
لكن يبدو أنّ ذهنيّة النظام لم يطالها أيّ تغيير ولم يتأثّر بحجم الكوارث التي طالت الوطن والشعب السّوريّ، ومازال يصرّ على نظرته الأحاديّة في تناول كافة المواضيع، فحديث وزير إعلامه عن أنّ “مؤتمر حميميم سينعقد في إطار المصالحات التي يجريها النظام”، إنّما يفرض نتائج على المؤتمر حتّى قبل أن ينعقد، ويضعه في مسار تابع له، متوّهماً أنّه خرج منتصراً في حربه، وما على الآخرين إلا الرضوخ لإرادته. هذه المقاربة السلطويّة الممزوجة بالتهديد والوعيد، ستقضي على كافة الآمال المعقودة على إطلاق حوار سوريّ – سوريّ غير مشروط، وتحت شعار “إيقاف الحرب المدمّرة، والبدء بإعمار سوريّا، ومناقشة المسائل الأساسيّة المتعلّقة بمستقبلها السياسيّ ومشاركة كافة المكوّنات في إدارة البلاد”.
استحقاقات روسيّة في سوريّا
اليوم، روسيّا مدعوّةٌ، وأكثر من أيّ يوم مضى ومنذ دخولها السّاحة السّوريّة بشكل فاعل في أيلول/سبتمبر 2015، أن توازِن بين أفعالها وأقوالها، فمنحها الضوء الأخضر، وللمرّة الثانية، لتركيّا للتوغّل في الأراضي السّوريّة واحتلالها، يفقدها مصداقيّتها أمام القوى الوطنيّة والديمقراطيّة السّوريّة، وهو في جوهره يتناقض مع دعوتها إلى “حميميم” وكأنّها تسعى للحصول على “صكوك استسلام” من الأطراف التي ستحضره، أو بأحسن الأحوال تسليم إرادتها إلى النظام.
إن كانت روسيّا جادّة في طرحها لحلّ سوريّ فيدراليّ، أن تبادر، وبالدرجة الأولى، إلى إزالة السبب الرئيسيّ الذي أوصل سوريّا إلى هذه الكارثة، ألا وهو الدور التركيّ الهدّام، فلن تنجح أيّة مؤتمرات أو مصالحات بوجود الجيش التركيّ “المحتلّ” على الأراضي السّوريّة، فهي تهدّد أيّ استقرار في سوريّا، كما تقوّض كلّ مساعي الحلّ السّوريّة والتي يطرحها السّوريّون بين أنفسهم.